القضاء في الدول المتخلفة غالبا ما يكون صورة للمجتمع حيث تسوده الرشوة والفساد واصدار الاحكام الخاطئة والمنحازة والمتأثرة بالهوى الشخصي والمصالح واوضاع لا تمت لتحقيق العدالة بصلة. والحكم الذي صدر بحق الرئيس مبارك ووزير داخليته ومساعدي وزير الداخلية ونجلي الرئيس من هذه النوعية الغريبة من الاحكام بامتياز. ولا يقتصر الامر في مصر على فساد القضاة بل ايضا الطريقة الغبية التي يعمل بها القضاء في مصر وكثرة القضايا وتراكمها وتأجيلها لسنوات مما يترتب عليه ضياع الحقوق وتفشي الظلم في المجتمع.
وفي عهد مبارك سادت الرشاوى في تعيين وكلاء النيابة الذين يصيرون بعد سنوات قضاة واصبح دخول النيابة اما عن طريق القرابة للسادة القضاة او عن طريق الرشاوى. وفي عهد سابق لم يكن القضاة يمثلون امام المحاكم بل كان يطلب من القاضي عندما يرتكب مخالفة ويواجهه التفتيش القضائي بالادلة ان يطلب منه في صمت ان يقدم استقالته. غير ان انحرافات القضاة يبدو انها كثرت بحيث لم يعد اتباع الاسلوب القديم مناسبا.
وحتى لو افترضنا انه لا توجد ادلة تدين مساعدي وزير الداخلية الذين تمت تبرئتهم على اعتبار ان المجرمين من قبيلة الشرطة الذين قام زملائهم ومرؤوسيهم بتدمير الادلة او طمسها حماية لهم، الا يوجد من المبررات العقلية والمنطقية ما يجعلهم في موضع الادانة؟. ان جرائم قتل الثوار ماهي الا الحلقة الاخيرة في مسلسل طويل من القتل والاجرام ارتكبه هؤلاء وحصولهم على البراءة هي اهانة لكل القيم المتحضرة في العالم ولا تعدو ان تكون سخرية واستهزاء بدم الشهداء والام ذويهم.
ثم ان الحكم بانقضاء الدعوة المدنية في اتهامات التربح التي كانت موجهة لمبارك ونجليه استند بالاساس الى توجيه اتهامات عبثية وزهيدة والتغاضي عن كوارث اخرى اكبر. والامر يشبه الى حد كبير معاقبة مجرم على اصغر جريمة ارتكبها من بين مئات الجرائم.
ربما كان الحكم على مبارك بالسجن المؤبد لاتهامه بقتل المتظاهرين هو الحكم الوحيد المعقول رغم ان كثيرين يرون انه يستحق الاعدام بجدارة. ولكن اعدام الرجل قد يدخله التاريخ كشهيد ومن الافضل ان يظل في طرة الى ان يلقى الله فتكون محاكمته الحقيقية على كل جرائمه. وللاسف مازال لدينا في مصر الكثير ممن ينظرون الى عهد مبارك من منظور مصالحهم الخاصة اضافة الى عدد أكبر من ضعاف العقول ومن ثم فهو بالنسبة لهم ربما كان زعيما مثاليا.
اما اسوأ ما في الحكم فهو تبرئة مساعدي العادلي وعدم الحكم عليه هو نفسه بالاعدام، لان هؤلاء يتحملون المسؤولية المباشرة عن قتل المتظاهرين وهم الذين اصدروا الاوامر المباشرة بذلك وربما اشرف البعض منهم على تنفيذها على الارض. وقانونا يعد الجندي الذي يحتل ادنى مرتبة في سلك الشرطة مسؤولا عن افعاله في جانب منها. واذا ما كانت طاعة اوامر قائده تخالف القانون ويمكن ان تضعه تحت طائلته يتعين عليه الامتناع عن تنفيذها، فكيف بهؤلاء وهم من كبار القادة وحلقة الوصل بين مبارك الذي ادين في هذه القضية وصغار الضباط والجنود الذين قاموا بالقتل المباشر. ومهما قيل عن تدمير الادلة او طمسها الا ان للقاضي سلطة تقدير حجم الجرم ومسؤوليتهم الجنائية عنه.
كان يمكن لهذه الاحكام، لو كانت اقرب الى المنطق والعقل، ان تساعد في اندمال الكثير من الجراح خاصة جراح اهالي الشهداء والمصابين في الثورة ومن ثم تسهل حركة المجتمع كله الى الامام والانتقال الى مرحلة جديدة لا يظللها الاحساس بالمرارة والظلم. وحتى هذه الاحكام يمكن تخفيفها بمراحل التقاضي المختلفة ليظل طائر الحزن والالم الخوف يرفرف على البلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق