الصفحات

السبت، نوفمبر 24، 2012

الموت بلا سقف والجنون بلا حدود








خلال الأيام القليلة الماضية صدمتنا الاحداث الكثيرة ليس على مستوى مصر فحسب بل على مستوى المنطقة بصورة تجعل المرء يردد المثل المصري الشعبي "المتعوس متعوس ولو علقوا على رأسه فانوس"، بمعنى أن المنطقة ولاسيما مصر لم تدخل الى الربيع العربي الا لتدخل منه الى شتاء مرير وقاسي لا احد يعرف متى ينتهي.

بدأت الكوارث بالغارات الاسرائيلية المجنونة على غزة التي جاءت بعد انتخابات امريكية وثورات الربيع العربي التي اطاحت بعدد من الزعماء العرب بعضهم من اقرب المقربين لاسرائيل، وتسبق انتخابات اسرائيلية اعتاد الساسة الاسرائيليون إن يشتروا الاصوات فيها بدماء الاطفال الفلسطينيين.

وبينما تدور رحي الحرب في غزة التي جعلت موقف مصر حرجا للغاية تذهلنا كارثة اخرى بمصرع اكثر من 50 طفلا في اسيوط في مزلقان قطار. والكارثة هي نتاج ثقافة عامة من الاهمال واللامبالاة والبلادة والاستهانة بحياة البشر. والذين القوا باللوم على مرسي في الكارثة جانبهم الصواب وكذلك الذين سعوا الى تبرئته منها. مرسي مسؤول مسؤولية اخلاقية عن اختيار مرؤوسيه من وزير النقل الى عامل المزلقان ومسؤول ايضا عن محاولته البناء على نظام فاسد وبيروقراطية تستحق الابادة وعدم العمل على تطهير المواقع الحكومية من الكسالي والخاملين وفلول النظام السابق.

ولم تجف دموعنا على كارثة القطار حتى فوجئنا بحرب بين الجيش والشرطة في القاهرة والاسكندرية وهي ايضا كارثة اخرى تشير الى إن الامور غائمة في البلد ولا احد يعرف مهام عمله ولا حدوده. هل تعني الثورة انفلات الجميع من كل القيود والكوابح والعمل كما يحلو لهم؟. وهل يصعب على المصريين إن يتأقلموا مع مفهوم الحرية دون ان يكون هناك قمع شديد؟ وهل يمكن ان تجد الديمقراطية والتعددية فعلا مكانا لها في مصر؟. هذا امر اصبح موضع شك كبير الان.

وبينما تسعى مصر الى انهاء هجمات الاسرائيليين البرابرة على غزة اندلعت اشتباكات شارع محمد محمود في الذكرى السنوية لمعارك دامية في العام الماضي. ورغم عبثية هذه الاشتباكات التي تهدف الى اقتحام وزارة الداخلية، الا إن المرء لا يستطيع إن يلوم من قاموا بها وحدهم. العدالة المنشودة عن قتل الثورار واصاباتهم لم تتحقق حتى يومنا هذا. ومن المستبعد إن تتحقق على الرغم من الاعلان الدستوري الذي تبناه مرسي مؤخرا.

الاعلان الدستوري نفسه يبدو غريبا وكذلك كان استقباله مما نسميهم بالقوى السياسية. والواقع إن اسلوب العمل السياسي في مصر بعد الثورة لم يختلف كثيرا عما كان عليه في عهد مبارك فهو يتسم بالانتهازية الشديدة وعدم السعي الى المصلحة القومية بل المصالح الشخصية. الاعلان الدستوري لمرسي قطع شوطا طويلا في ترسيخ حكم الفرد وان يكن لفترة قصيرة ورد القوى السياسية هو الاخر يكشف عن سعيها الى مصالحها الذاتية وبهذه الطريقة لا اعتقد إن هناك الكثير من الامال أن تمضي مصر قدما في طريق البناء بل ليس من المستبعد، طالما كانت هذه هي طريقة التفكير، إن يكون هناك المزيد من التفسخ والتداعي.

الجمعة، نوفمبر 16، 2012

سحب السفير المصري واحتجاج المعاتيه



درجت الدول في العرف الدبلوماسي ان تسحب سفيرها من دولة اخرى عندما تتخيل انها ارتكبت خطأ او تجاوزت الاعراف الدبلوماسية التي تنظمها المواثيق الدولية. ويكون سحب السفير اضعافا لموقف الدولة الدبلوماسي وهو ما تسعى الدول الطبيعية الى تحاشيه.

وبالمثل يمكن ان يطرد دبلوماسيون من دولة باعتبارهم غير مرغوب فيهم. وتقول الديباحة المرافقة للاجراء في هذه الحالة انهم يقومون بأعمال تتنافي مع اوضاعهم ومهامهم الدبلوماسية، في اشارة صريحة الى قيامهم بالتجسس.

هذه الامور طبعا تحدث بين الدول وغالبا لا يكون للافراد دخل فيها. وكلنا يدرك بالطبع ان سحب السفير المصري من اسرائيل احتجاجا على الغارات الهمجية على غزة هو ما يمكن ان نصفه بانه اضعف الايمان. والاجراء يكاد يكون واحد من عدد محدود جدا من الخيارات المتاحة امام مصر للضغط على اسرائيل لوقف عملياتها المجنونة. غير ان اسرائيل لم تفعل ذلك بل زادت غاراتها حدة وكثافة. 

الامور على ما يبدو اكبر بكثير من مجرد رد على صواريخ حماس وربما يكون المقصود من هذه الغارات اختبار رد فعل الدول العربية التي مرت رياح الربيع على بعضها. امريكا كان رد فعلها سريعا لانها لم تشأ ان تجد بين الدول العربية إيرانا اخرى تقض مضجعها وتقلقها. وللاسف استجاب العرب لايمانهم الغبي بان امريكا شر لا بد منه. واستطاعت امريكا التي كانت تدعم النظم المعادية للشعوب على مدى عقود ان تستوعب الانظمة الجديدة على ان تتخلى عن ثوريتها وتتأقلم مع الوضع الذي كانت عليه النظم التي سبقتها. ويبدو انه حان الان موعد تدجين هذه الانظمة وادخالها تماما في قالب الانظمة القديمة عن طريق ارهابها وتخويفها بالقاعدة الامريكية المتقدمة المعروفة باسم اسرائيل. ومالم تسعى الشعوب العربية الى التخلص من الوجود الامريكي العسكري في المنطقة خلال العقد الحالي ومن ثم التخلص من النفوذ الامريكي تماما والهيمنة الامريكية فانها لن تعيش حياة طبيعية ابدا مهما اشتعلت فيها الثورات سواء كانت ثورات الربيع او ثورات الفسيخ كما اسماها مسئوال امني احمق باحدى الدول العربية.

من المتوقع ومن الطبيعي جدا ان تتعاطف الشعوب العربية مع الفلسطينيين سواء كانوا يؤيدون اطلاق الصواريخ غير المجدية من غزة على اسرائيل من عدمه. ولكن لكي تحل القضية بصورة جذرية فهي بحاجة الى بعض التضحيات من القادة العرب عن جزء صغير جدا من نفوذهم الواسع غير الشرعي في بلدانهم، وليس الصواريخ التي يطلقها ابناء غزة. 

ولكن اليوم صعقت عندما قرأت انه كانت هناك وقفة في شارع محمد محمود تحتج على سحب السفير المصري من اسرائيل. ونحن نحترم حرية الاراء ونحترم تعددها ولكن هناك اشياء تبدو غبية وخارجة عن الواقع وهذه عادة ما يقوم بها اشخاص مصابون بالضعف العقلي. والسؤوال الخطير هم من هؤلاء الذين وقفوا في شارع محمد محمود ليلوثوا تاريخه بفعلتهم هذه وما هي مراميهم؟. والسؤال الخطير هنا : هل يمكن ان تؤدي كراهية الاخوان ورفضهم الى التغاضي عما تفعله اسرائيل وتضفي عليه شرعية في اي اطار؟. ما يحدث في غزة هو نتاج تراكم جبال من الاخطاء على مدى عقود ولكن ما يحدث فيي شارع محمد محمود هو نوع من التطرف الجديد والغريب.



الخميس، نوفمبر 15، 2012

مرسي واسرائيل يخطفان الاضواء من هيفاء وهبي

 
هيفاء
كان خبر طلاق المطربة اللبنانية المثيرة للجدل والخيال هيفاء وهبي من رجل الحديد المصري احمد ابو هشيمة هو الخبر الي سيطر على الاوساط الاعلامية العربية كلها وطغي على اخبار دول الربيع العربي وحتى دول الخريف والشتاء واصبح هو الخبر المهيمن على الساحة. وتباينت الاقاويل والاراء والانباء حول اسباب الطلاق ومبرراته وما يمكن ان يسفر عنه وتداعياته على المدى الطويل والقصير وحتى المتوسط.

وقيل من بين ما قيل ان هيفاء حضرت حفلا على سفينة مملوكة لملك البحرين وان الملك ضايقها. وعندما يقال لفظ ضايقها عن هيفاء لمواطن عربي طبيعي فهذا معناه الفوري انه تحرش بها. ولكن هل الملك الذي يعد عرشه على كف عفريت منذ فبراير 2011 والذي لا تنسى ايران ان تقول كل اسبوع مرة واحدة على الاقل ان بلاده جزء من اراضيها وانها ستضمها اليها، لديه الوقت وفراغ البال والشهية "للصرمحة" وراء الجميلات، وهيفاء تحديدا. 

قيل ايضا ان ابو هشيمة مرشح للعب دور كبير في عالم البيزنس في عهد الاخوان وانهم اسروا له بان وضعه الاجتماعي وبالتالي وضعه في عالم البيزنس سيتأثر كثيرا بكونه زوج لسيدة مثل هيفاء. ولكن اذا كان ابو هشيمة يحبها فعلا فهل يضحي بها من اجل صفقة او حفنة من المال حتى وان كانت حفنة هرقل؟. زواج المال والفن الذي يحركه في الغالب الجشع وحب المظاهر سرعان ما ينتهي نهاية سيئة ولعل من اسوأ النماذج وابشعها علاقة أيمن السويدي بالفنانة التونسية ذكرى والتي انتهت نهاية فاجعة.

نتنياهو رئيس وزراء اسرائييل
ومهما كانت الاسباب خلف طلاق هيفاء فلاشك ان الاجيال التالية ستحسدنا كثيرا على اننا عشنا ايام زواج هيفاء وعشنا ايام طلاقها ايضا. غير ان الخبر الهام جدا مالبث ان توارى قبل اقل من اسبوع من انهماك المحللين والمنظرين فيه عندما قامت اسرائيل بغارات مجنونة على غزة انتقاما لصواريخ يطلقها الفلسطينيون من غير المتصور ان تقتل عنزة لو اصابتها اصابة مباشرة ويسمون ذلك من قبيل الفضفضة عن النفس "جهادا"، موقنين ان هذه الصواريخ التي تشبه صواريخ الافراح لدينا سوف تقض مضاجع الاسرائيليين وتقلق نومهم فيحملوا عصاهم ويرحلوا الى حيث ألقت ويتم تطهير البلاد منهم. غير ان الاسرائيليين ردوا على "الالعاب النارية" المنطلقة من غزة بوحشية مطلقة. وتدخلت مصر وحاولت تهدئة الامور وهددت بانها ستسحب سفيرها. وبدلا من ان تحاول اسرائيل - على غرار امريكا - ان تتماشى مع الاخوان اذ بها بلغة هيفاء وهبي تضغط على "الواوا" لدى الاخوان في غزة. وبعد ان هدأت اسرائيل قليلا ريثما تقيم الامور وترجع في شأن التهديد المصريالى العم سام - الذي يبدو انه قال لهم ان مرسي في جيبه ولا ضير منه – عادت الى شن غارات اكثر بربرية وهمجية على غزة.

سحب السفير المصري من اسرائيل الذي هلل له البعض باعتبار انه فتح عظيم و"امجاد ياعرب امجاد" شيء طبيعي جدا وعادي جدا ويمكن ان يعود السفير الى اسرائيل مرة اخرى في أي وقت بعد مكالمة من الحاج اوباما يطيب فيها خاطر مرسي ويعده بانه سيبذل قصارى جهده لحل القضية الفلسطينية قبل ان يعدل الدستور الامريكي ويرشح نفسه للفترة الثالثة.

العرب الذين يتمرغ الغرب في اموالهم بلغ بهم التداعي والهوان ان يهللوا لسحب السفير المصري من اسرائيل باعتباره انتصار. مصر في النهاية تتصرف داخل اطر وكوابح ضيقة للغاية وهي مرغمة على التمسك باتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية رغم انفها لان التخلي عن المعاهدة يعني الدخول في حرب مع جيران برابرة وهمج. كذلك فمصر ليست لديها ادوات ضغط اقتصادية ولا دبلوماسية كبيرة واقصى ما في وسعها ان تسحب السفير او تطلب من واشنطن الضغط على اسرائيل. وهكذا فالسفير الذي ذهب الى اسرائيل بخطاب من مرسي اثار الكثير من الجدل لعاطفيته وحرارته المفرطة تجاه اسرائيل يعود مرة اخرى الى مصر بسبب طيش بعض ابناء غزة الذين ضاق مفهوم الجهاد لديهم حتى اصبح فرقعة بمب وبربرية الاسرائيليين الذين دانت لهم الارض وبلغوا حدا من الرفاهية حتى اصبحوا يضيقون بصوت انفجارات صواريخ الافراح امام منازلهم.

الاثنين، نوفمبر 12، 2012

شجرة البرقوق







ياسوناري كاواباتا


كان الام والاب يتجادلان وهما جالسان قبالة بعضهما يتطلعان الى الزهرتين او الزهرات الثلاث الحمراء على شجرة البرقوق العجوزة.

على مدار بضعة عقود الآن، كانت تظهر الزهرات الاولى على نفس الفرع السفلى. قال الاب انها لم تتغير البتة منذ قدمت الام الى البيت كعروس ولكن الام قالت انها لا تتذكر. وضايقته هذه المراوغة. وقالت انها ليس لديها وقت لأشجار البرقوق وقال الاب انها قد اضاعت وقتها. وبدت المشكلة انها كانت راغبة عن مشاركته شعوره بقصر الحياة الانسانية مقارنة بحياة شجرة البرقوق العجوزة.

وتطرق الحديث الى حلوى يوم رأس السنة وقال انه فى الثانى من يناير احضر الحلوى من محل "فوجيتسودو" ولكنها قالت انها لا تتذكر شيئا عنها.
"ولكنى اتذكر جيدا اننى امرت بأيقاف السيارة فى كل من "ميجى" و "فوجيتسودو" واشتريت الحلوى من كليهما".
"اذكر حلوى ميجى ولكنك لم تشتر فى اى مرة شىء من "فوجيتسودو" منذ قدمت انا الى هذا البيت".
"انك تطلقين تصريحات جارفة"
"لم تأت الى ابدا بأى منها".
"ولكنك اكلتيها، اعرف اننى قد أتيت بها".
"انك تجعلنى اشعر بالقلق، لقد حلمت بها، انك تتحدث عن شىء حلمت به".
"اوه؟".

خارج الغرفة فى المطبخ، كانت الابنة مشغولة باعداد الغداء وسمعت الجدل. كانت تعرف الحقيقة ولكنها لم تشعر بدافع لكشفها ووقفت تبتسم بجانب الغلاية.
"أأنت متأكد انك أتيت بها الى البيت؟".
بدت الام بسبيلها الى الاعتراف ان الاب، على الاقل، ربما يكون قد قام بالشراء.
كان الاب مذبذبا "لقد اشتريتها ولكن هل يمكن ان اكون قد تركتها فى السيارة؟".
"ولكن اذا كنت قد تركتها فى السيارة لكان السائق قد اتى بها وماكان ليمضى بها فالسيارة سيارة الشركة".
"هذا صحيح"
وشعرت الابنة ببعض القلق.
شعرت بالقلق لان امها نست ولان ابيها ترك ثقته تهتز هكذا بسهولة. 
لقد خرج يتمشى فى الثانى من يناير وامر ان تتبعه السيارة واشترى صندوقا كبيرا من كعك الارز الحلو من "فوجيتسودو" وساعدت امها فى التهام هذا الكعك.
ساد الصمت ثم تذكرت الام بهدوء كبير.
"آه، تلك الحلوى. لقد اشتريتها حقا، أليس كذلك"؟
"بلى"
"لقد كان لدينا الكثير منها".
"وانا اشتريتها".
"ولكن هل اشتريت مثل تلك الأشياء الرخيصة من "فوجيتسودو"؟".
"نعم"
"أذكر ذلك ، لقد اعطيناها لشخص ما بلفتها، ياترى من كان هذا الشخص؟".
"نعم لقد أعطيتيها لأحد ما".
وتكلم كما لو كان تصلبا فى رقبته قد زايله فجأة. "ربما أعطيتيها لفيوزى".
"فيوزى، ربما. نعم لقد قلت لايجب ان ندع الاطفال ترى ذلك".
"لقد كانت فيوزى".
ومع نهاية هذا الجدل بدا ان الاحساس بالوفاق قد ارضى كليهما.
ولكن الحقائق كانت على خلاف ذلك فقد اعطوا الحلويات ليس لفيوزى خادمتهم السابقة ولكن للولد الذى يعيش فى المنزل المجاور لمنزلهم.
وانتظرت الابنة ان تتذكر الام هذا ايضا ولكن لم يأت من غرفة الافطار سوى صوت الغلاية.
واحضرت الغداء.
"هل سمعت جدالنا يايوشيكو؟".
"نعم".
"يبدو ان امك مجهدة قليلا. وكلما زاد الامر سوءا تمعن فى التظاهر بانه ليس ثمة خطأ. يجب ان تساعديها فى تذكر الأشياء".
"انى اتعجب اينا الاكثر إجهادا، لقد خسرت انا هذه المرة ولكنى اتعجب".

وخطر للابنة ان تقول شيئا عن فيوزى والولد فى المنزل المجاور ولكنها لم تفعل.
بعد عامين مات ابوها، فقد اصيب بجلطة خفيفة ولم يذهب الى المكتب الا نادرا منذ ذلك الحين.

ومازالت ازهار البرقوق الاولى تخرج من ذلك الفرع السفلى. فكرت يوشيكو مرارا فى موضوع "فوجيتسودو" ولكنها لم تحادث امها ابدا فيه، ومن المرجح الى حد كبير ان امها قد نست.


السبت، نوفمبر 03، 2012

الدكتور يحييكم ويضحي من أجلكم







   

المجتمع المصري يعج بنماذج من البشر عندما يتوقف عندها الانسان لا شك تستغرقه حالة من الدهشة والاستغراب. هل هؤلاء بشر احياء بالفعل ام مجرد كائنات هلامية خرجت لتوها من بين دفتي رواية لكاتب مبتديء أو غير حاذق. انها نماذج من لحم ودم تعيش بيننا وتتنفس نفس الهواء الذي نتنفسه وتتحدث نفس اللغة، ولكنها تأبى الا ان تقيم عالما خاصا بها تصنع فيه قيمها ومواقفها من الحياة والبشر وكل شيء في العالم وفقا لما يتماشى مع منطقها الاعوج. 

الدكتو قدرة او عبدالقادر الذي يعمل بإحدى كليات القانون في الجماهيرية الليبية الشقيقة هو شخصية روائية ومع ذلك لو فكرت في وضع رواية عنه لاتهمت بالمبالغة الزائدة او المغالاة غير المبررة ولن تجدي بالطبع في هذه الحالة ان تقدم أي توصيفات من قبيل الواقعة الاشتراكية او الواقعية الشكلية او حتى الواقعية السحرية لان الواقعية في حالة الدكتور من نوع الواقعية الطينية أو الغرينية.

والدكتور لا يعي شيئا تقريبا خارج نطاق دراسته وليس لديه وعي ولا احساس بالتاريخ ولا حتى بالمنطق او الفهم او العلاقات البشرية وكيف يجب ان تكون ولم يقرأ تقريبا حتى حصوله على الدكتوراه وربما حتى تاريخنا هذا سوى الكتب المتعلقة بمجال دراسته الا انه ورث فيما ورث فكرا تقليديا راسخا في هذا المجتمع منذ ايام العثمانيين وهي ان الناس تقيم وفقا لدرجاتها الدراسية وشهاداتها العلمية. ويمكن ان يتجاهل الدكتور كلمات احد اعمامه او اخواله أو اخوانه الكبار لمجرد ان الرجل لم يحصل الا على الابتدائية او الاعدادية رغم انه يحظى باحترام كبير بين افراد العائلة ويفهم تقريبا اضعاف اضعافه في امور الحياة وشؤون البشر.

الدكتور يعتقد ان اولئك الذين حصلوا على الدكتوراه هم فئة من البشر تتفوق على البشر العاديين. والواقع ان هناك كثيرين في مصر من حملة "الدرجات العلى" يفكرون بنفس المنطق. وربما ادى الى ذلك التصوير لدى الدكتور ان احدا من اشقائه لم يحصل على أي شهادات كبيرة او تملأ العين بل ان الذي تعلم من بينهم يكاد يفك الخط بصعوبة.

ولكن عندما يدرس المرء حياة الدكتور سيكتشف في أي مجتمع من العاهات والمرضى يعيش كثير من المصريين، وسترى ان مصر ما هي الا مستشفى امراض عقلية كبير. والمصريون، في الغالب، لا يسألون انفسهم كيف يتصرفون او الى أي منطق تستند تصرفاتهم التي تبدو لهم هم انفسهم حتى غريبة.

الدكتور حصل على الثانوية العامة من احدى قرى مصر الواسعة حيث كان يقيم في مكان لا يفصله عن المواشي سوى جدار منخفض هش من الطوب اللبن. وكان صوت الجاموسة وهي تحك ظهرها في الجدار يبدو له جليا واضحا كما لو كانت تنام الى جانبه. وكان لسعادة الدكتور شقيق يتولى شراء الكتب الخارجية له طوال تلك السنوات الى ان اتى للاقامة معه في القاهرة في حجرة فوق السطوح وبدأ يدرس الادب الانجليزي ولكنه فشل في دراسة الادب عامين متتاليين فتحول الى الحقوق وافلح فيها. انهى الرجل دراسته وبدأ يتدرب في مكتب محام. وضاقت غرفة السطوح بسكانها فانتقل الجميع الى شقة اوسع في شبرا الخيمة في الطابق السادس كانت امطار الشتاء تزحف على سقفها وجدرانها مثل الافاعي بينما تتحول في الصيف الى فرن.

الدكتور ظل يعمل في مكتب المحاماة ويتقاضى الملاليم الى ان فتحها الله على احد اخوانه الاخرين واشترى شقة في الزيتون وسمح للمحامي ان يستخدمها كمكتب. وقال المحامي الذي كان قد حصل على الماجستير في القانون من نقود اخيه صاحب الشقة انه يريد ان يحولها الى مركز تدريس واخذ منه مبلغا اشترى به مقاعد ذات مساند ومكتب فخم وطقم انتريه فخم من الجلد. وفوجيء اخيه بعد فترة قصيرة بالمقاعد الخشبية تختفي ولم يسأله اين ذهبت ولا اين فلوسها. بعد فترة قصيرة توجه اخيه الى الشقة وكان معه مفتاحها ففوحيء بان الكالون تغير. وسأله فقال ان المفتاح ضاع منه وخشى ان يكون البعض قد عثر عليه لذلك غير الكالون ولكنه لم يعط لاخيه نسخة.

اكتشف اخيه بعد فترة ان سعادة المحامي يستخدم الشقة "جارسونيرة" حيث يستدرج موكلاته اليها. وربما يعتبر ذلك نوع من الخيبة الثقيلة والتنكر للنعمة وانعدام التفكير، فالمحامي مثلا لم يفكر انه لولا فتح الله على اخيه وتمكن من شراء هذه الشقة ليجعلها مكتبا لكان هناك نائما في البلد يـأتيه نعير الجاموسة عبر الجدران، واقصى امانيه في العمل تتمثل في كتابة عقد لقيراط ارض يأخذ منه اتعاب 100 جنيه، وهو ما يعطينا درسا خطيرا في مضاعفات الحرمان وكوارثه وكيف ان انعدام القدرة على التصور والتخيل قد يكون مصيبة كبرى في احيان كثيرة. اطرف ما في الامر ان الرجل راح يسجل لضحاياه فيتعمد ان يتكلم معهن بالساعات على سبيل الاستدراج وهو يقول كلاما في منتهى الانحطاط والسفالة ويضعهن تحت رحمته ويحتفظ بشرائط الكاسيت. كان طوال ذلك الوقت يقيم في شقة اخرى مع اخيه صاحب شقة المكتب بينما يستخدم المكتب كمعمل للصوتيات. وفوجيء اخيه في يوم بفاتورة التليفون تأتي ضخمة للغاية على غير المتوقع. وذهب الى السنترال وطلب فاتورة تفصيلية واكتشف ان اخينا كان يتحدث الى موكلاته العاشقات في المحمول من تليفون اخيه اما تليفون المكتب الذي يدفع هو فاتورته فكان يستخدمه في التسجيل وقد اعد بالشقة عددا من اجهزة التسجيل الكبيرة والصغيرة وكافة الاحجام لزوم العمل. ولا احد يعرف لماذا كان يسجل الاستاذ لموكلاته. ولكن الدلائل تشير الى ان الهدف كان بغية ابتزازهن الجنسي والمالي. ومن الطريف حقا ان احداهن تحدثه عن مخاوفها ان يكون هو يسجل لها ولكنه يقسم انه لا يسجل لها وكلما اراد ان يقلب الشريط تنتابه نوبة من السعال الشديد حتى ينتهي من المهمة التي قد تكشفه للضحية.

وهنا غضب اخوه وثار ودعا كبار العائلة ومنهم اشقائه الى اجتماع عاجل. وتقرر في الاجتماع ان يتم منحه الشقة عام ونصف مجانا حتى يدبر اموره ثم يخليها. ومر العام والنصف ومرت بعدها حوالي خمسة اعوام اخرى دون ان يفكر اخيه في اخراجه من الشقة حيث لم يكن في حاجة اليها، كما ان اخينا لبس ثوب التقى واعلن تنكره لما بدر منه من فسوق.


ولكن عندما احتاج صاحب الشقة اليها ارسل الى بعض الوسطاء الذين كانوا شهودا على الاتفاق القديم ليتحدثوا اليه. ولكن الغريب ان المحامي رفض مبدأ التخلي عن الشقة وبدأ يستشهد بطول اقامته فيها على انها شقته. واضطر اخيه ان يرفع عليه دعوى فظل يماطل ويخسر الدعوى في محاكم الدرجة الاولى لينقلها الى الاستئناف. وبعد ان يخسرها يبدأ دعوى اخرى جديدة. وظل الرجل مقيما في الشقة منذ عام 1997 الى يومنا هذا ومازال يماطل. كانت الشقة يوم شرائها تساوي 50 الف جنيه وهو الان يطالب بان يعطيه اخيه مئة ألف جنيه حتى يخرج منها او يأخذ مئة ألف جنيه ليتركها له.    

الغريب في الامر وهذا شيء ربما يحتاج الى محللين لدراسته ان الرجل متدين جدا فهو طوال رمضان لا يترك ركعة من التراويح او القيام وعندما يسمع ابن اخيه وهم يستمع الى بعض الاغاني في المحمول يقول له بصوت عال "جهنم وبئس المصير" ويحرص في عيد الاضحى على التضحية ولكن اللحوم التي يرسلها لاخوانه واقاربه ترد اليه مرة اخرى دون ان يقربها احد وهم يتعثرون في خجلهم ويقولون له ان ثلاجاتهم ممتلئة ولا شك ان هناك من هم اولى منهم بها. ولكن الحقيقة انهم يشعرون بالشك فيه وفي أي شيء يمكن ان يأتي من ناحيته. واذا تحدثت الى احدهم وناقشت معه الامر بجدية يقول لك ببساطة شديدة "ياعم هو احنا عارفين فلوسها جاية منين..دي الفلوس بتاعة شقة فلان اخوه الى هو مغتصبها وقاعد فيها بالعافية تجيب له تلات اربع عجول في السنة".

الخميس، نوفمبر 01، 2012

 




السيروس*

ياسوناري كاواباتا 


للصيف الثالث على التوالى اعتاد كوميا ان يدعو العديد من صديقات زوجته فى المدرسة لرؤية السيروس الذى يزهر بالليل.
قالت السيدة موراياما التى كانت اول من وصل من المدعوين وهى تخطو الى الردهة: "انها جميلة ..انظر كم هى كثيرة..اكثر من العام الماضى".
وراحت تحدق فى السيروس.
"الم يكن هناك سبعة فى العام الماضى؟ كم عددها الليلة؟.
كان منزل غربى عتيق الطراز من الخشب به ردهة كبيرة،  ونحيت المائدة جانبا ووضع السيروس فى المنتصف على حامل دائرى،  وكان الحامل أقل انخفاضا بقليل من مستوى الركبة ولكن السيدة موراياما كانت تتطلع الى الزهور.
"انها مثل فانتازيا بيضاء"  قالت نفس الشىء العام الماضى. وقبل عامين، عندما رأت السيروس للمرة الاولى، قالت نفس الشىء بحرارة اكثر.  
وأقتربت اكثر وتمعنت فيه للحظات ثم استدارت لتشكر كوميا.
وقالت للفتاة الصغيرة التى وقفت الى جانب كوميا: "مساء الخير ياتوشيكو..شكرا لك للسماح لى بأن احضر..انك اكبر واجمل.. ان السيروس قد ازهر بضعفى عدد العام الماضى وكذلك انت".
ونظرت اليها الفتاة ولكنها لم تجب. لم يبد انها خجلة ولكنها لم تبتسم.
 "لاشك انك اوليته الكثير من العناية"  قالت السيدة موراياما لكوميا "لكى يزهر على هذا النحو اللطيف".
"اعتقد انها ستكون اجمل ليلة هذا العام". ومن ثم كانت الدعوات المفاجئة، لاشك انه قصد ان يقول ذلك، رغم ان صوته لسبب ما لم يتلفظ بها. 
كانت السيدة موراياما تقطن فى منطقة قريبة، فى كوجينوما. طلبها وقال لها ان هذه هى الليلة - وطلبت هى اصدقائها فى طوكيو. وبلغته بالنتائج: اثنتان من النساء المدعوات لديهن ارتباطات اخرى وثالثة ستنتظر زوجها حتى يعود الى المنزل اما السيدة ايماساتو والسيدة اومورى فسوف تأتيان حتما.
"لقد قالت السيدة اومورى طالما سيكون هناك ثلاثه فقط فانها تتسائل اذا كانت تستطيع دعوة شيماكى سوميكو للحضور. انها لم تأت هنا من قبل  كما انها تقريبا الوحيدة فى الفصل التى لم تتزوج".
ونهضت توشيكو وخرجت من الباب خلف السيروس.
قالت السيدة اومورى: "دعينا ننظر اليها سويا ياتوشيكو".
"لقد رأيتها تزهر".
"هل رأيتيها حقا تتفتق عن الزهر؟ مع ابيك؟ عليك ان تخبرينى كيف كانت تبدو؟".
ولكن الفتاة خرجت دون ان تنظر خلفها.
تذكرت السيدة موراياما ان "كوميا"  روى لها قبل عامين انها تزهر مثل زهرة اللوتس متماوجة  كما لو كان يهب عليها نسيم رقيق.
"هل تكره رؤية صديقات امها؟ أيكون السبب انها لاتريد ان تسمع عن امها؟ كنت اتمنى لو كانت ساشيكو معنا رغم انى اعتقد انها لو كانت هنا لما كلفت نفسك كل ذلك العناء.
رأت السيدة "موراياما" السيروس للمرة الاولى عندما اتت ذات مساء صيفى قبل عامين لتبلغه ان زوجته التى وقعت بينه وبينها جفوة ترغب فى مصالحته. اتت بعد ذلك ثانية مع كثير من الصديقات وطلبوا منه ان يسامح زوجته.
سمعوا صوت سيارة ووصلت السيدة ايماساتو. كانت الساعة تقترب من العاشرة.
 يتفتح زهر السيروس فى المساء وتذبل زهوره فى حوالى الثانية او الثالثة صباحا. لقد كانت زهور لايتجاوز عمرها ليلة واحدة.  بعد حوالى عشرين دقيقة وصلت السيدة أومورى مع شيماكى سوميكو. وقدمت السيدة موراياما سوميكو الى كوميا.
"انها صغيرة للغاية وجميلة وهذا هو السبب فى انها مازالت غير متزوجة".
"ان السبب هو اننى عانيت الكثير من المرض".  كانت عينا سوميكو تتلألأ وهى تنظر الى السيروس. كانت هى الشخص الوحيد الذى لم يره من قبل. راحت تتهادى حوله وتقرب وجهها منه.
كانت الزهور تخرج من جذوع سميكة فى نهاية ورقات طويلة نوعا ما. وكانت الزهرات البيضاء الكبيرة تتأرجح برقة فى النسيم القادم من خلال النافذة. كانت زهرة غريبة، ذات تويجات مختلفة عن تويجات الاقحوان ذى التويجات الطويلة او زهور الداليا البيضاء. كانت مثل زهرة فى حلم، فيض من الاوراق عميقة الخضرة تمتد الى اعلى من الخيزرانة التى تساند الثلاثة اعواد. وهناك ايضا كانت اكثر الزهور. وكما هو الحال فى الانواع  الاخرى من الصبار، كانت المدقات طويلة ونمت اوراق من اوراق اخرى.
ولم تلاحظ سوميكو ان كوميا، الذى راعه استغراقها، قد تحرك الى جانبها.
"هناك عدد كبير منها فى اماكن متفرقة من اليابان، ولكنه من غير المعهود ان يكون هناك ثلاثة عشر زهرة فى ليلة واحدة. انها تزهر ستة او سبعة ليلات فى العام والليلة يبدو انها افضل ليلة".

وقال لها ان مايبدو كبرعم زهرة ليلق كبيرة سوف يزهر غدا، أما النتوءات التى تتخذ شكل حبة الباقلاء على الاوراق فسوف يصير بعضها أوراقا بينما يصير البعض الآخر براعما. وسوف تستغرق البراعم الاصغر حوالى شهر لتزهر.
كانت سوميكو غارقة فى الاريج الحلو، الذى يفوق فى حلاوته الليلق وان لم يكن بنفس الحدة. وجلست دون ان ترفع عينيها عن السيروس: " صوت الكمان، من الذى يعزف عليها؟".
"انها ابنتى"
"يا لها من مقطوعة جميلة. ما أسمها؟".
"يؤسفنى اننى لا أعرف".
وقالت السيدة أومورى "انها عزف جميل يصاحب السيروس"
وبعد ان تطلعت الى السقف لبضع لحظات، خرجت سوميكو الى  مهدة العشب المحيطة بالمنزل وكان البحر تحتها مباشرة.
وقالت عندما عادت: "لقد كانت فى الشرفة، فى الطابق العلوى، فى مواجهة البحر ولكنها واقفة وظهرها اليه. لا أدرى اذا كان ذلك أفضل".

--------------------------------------------
* السيروس cereus : نباتات برية وتزيينية من جنس الصباريات الشوكية.