الصفحات

الثلاثاء، مايو 28، 2013

هاملت الدمشقي







أكدت روسيا والولايات المتحدة انهما بصدد جمع اطراف الحرب الاهلية السورية على مائدة المفاوضات فانتعشت آمال الاسد واراد ان يبني على عدة عوامل لكي يضمن مستقبله السياسي فيما بعد المفاوضات، تساعده في ذلك مؤثرات خارجية مثل الضربات الجوية الاسرائيلية لسوريا واعلان نصر الله رئيس ميليشيا حزب الله مؤخرا انه لن يترك سوريا لتسقط. كل ذلك أدى الى انتعاش معنويات الاسد وفي انتظار الساعة التي سيحين فيها عقد الاجتماع المزمع بدأ يعد اوراقه استعدادا للحظة، وفي نفس الوقت يتابع بدأب تطورات الاعمال على الجبهة. ونحو الساعة الثانية صباحا بعد ان عكف على العمل لساعات، خطر له ان يخرج الى شرفة القصر ليتنفس بعض الهواء قبل ان يتابع قراءة التقارير التي وصلته من القصير توا حول سير المعارك. وراح الاسد يتطلع الى سماء دمشق من شرفته فاذا بها اشبه بحفل للالعاب النارية، الانفجارات والشهب والحرائق تنطلق في كل مكان حوله لتضيء الليل. حرائق تنطلق في لحظة وتخبو وحرائق اخرى تستمر وصوت اطلاق نيران متقطع ومدافع تصم الاذان تنطلق لدقائق وهي تصدر دوي رهيب كانما تتعجل انهاء مهمة ما. راح الاسد يعب الهواء النقي الذي تشوبه نوعا ما - رغم ان المنطقة التي يوجد به القصر مؤمنة الى مسافة ما ولا يوجد بها اي قتال - رائحة البارود والحريق، ويتأمل وهو ينظر الى دمشق. كم مرة نظر من هذه الشرفة نفسها فوجدها نائمة ممددة تحت قدميه، ساجية في غفوتها الابدية. مالها تمردت واصبحت مدينة عصية... غير انه لم يسترسل في افكاره فقد قطع مجال رؤيته شيء مر من امامه متجها الى اليسار. وشعر بانقباض للحظة وتحفزت خلايا ذهنه للعمل فالعالم يموج بمؤامرت غريبة ولا يستبعد اي شيء ولكن الشيء الغريب لم يلبث ان تماوج وتداخل في بعضه حتى بدا كما لو كان يتخذ شكل الانسان. وضع الاسد يده على مسدسه الذي يحتفظ به في جيبه طوال الوقت. ولكن الشبح الذي بدأ يتخذ ملامح حافظ الاسد والده صاح به:
- مهلا مهلا..يابني لا تجعل الجزع يتولاك فتطلق النار على ابيك فتقتله.
- ابي؟..أأنت حقا ابي؟..أنا لا اصدق انك هنا..لقد أتيت لي في الوقت المناسب لتساعدني..ابي اقترب مني يا ابي دعنا نجلس معا ونتحدث.
وابتعد الشبح عنه قليلا فوقف قبالته في الهواء على بعد امتار، لا تتبدي منه سوى صورة غائمة لنصفه الاعلى بدت كلوحة رسمها فنان غير حاذق.
- لا يمكنني يا بني ان اقترب منك اكثر من ذلك...ولكن قل لي يا بني لماذا اراك شاحبا ومجهدا. ما الذي حل بك..لقد كنت في افضل صحة واحسن حال عندما تركتك.
- ليتك ما تركتني يا أبي..انا لست سعيدا ابدا..انا لم اعرف راحة البال منذ اكثر من عامين.
- لماذا يا بني..هل تركت الرئاسة.
- لم اتركها يا ابي..هي التي تريد ان تتركني.
- صه..صه..يالك من خائب..لقد كان هذا هو ما توقعته من فاشل مثلك..كنت اعد اخيك باسل واعرف انه اقوى عزما واشد جلدا منك..ولكن يد القدر انتزعته في اللحظة الاخيرة..فلم اجد امامي سواك..للحفاظ على العرش العلوي في دمشق.
- العرش يبدو انه لن يستمر يا ابي...العرش العلوي ينتفض بشدة وبدأت جوانبه تنهار..لن يستمر لجيل اخر يا ابي.
- يا للفاجعة..لماذا يا بني..ألم تنجب اولاد..حتى لو كانوا بنات..مازال بإمكانك ان ترتب لهن.
- بلا يا ابي ولكن هناك ثورة في سوريا.
- اي ثورة يا بني..هل هناك من يسعى الى الانقلاب عليك.
- العالم كله يا ابي انقلب على...تخيل انني احارب العالم كله...
- كيف يا بني...هل بدأت سوريا حربا عالمية..انا لا اصدق ذلك.. ان هي الا دسيسة امريكية صهيونية ضد سوريا الحرة..سوريا الصمود والتصدي كما تركتها. 
- هناك ما هو أسوأ يا ابي..على الاقل في الحرب العالمية ستجد حلفاء واعداء لكن ابنك يا ابي ليس له سوى اعداء..من اخر بلاد الشيشان الى مجاهل افريقيا وتركستان في اخر اطراف الصين..كلهم جاءوا هنا ليقاتلوا ضد ابنك..امريكيا والسعودية وقطر وبوركينا فاسو وحتى جمهورية كبرياتي..كلهم ياأبي يطالبون برأس ابنك.
- ما هذا يا بني الذي تحكيه لي...هل تغير العالم هكذا خلال الايام القليلة التي تركت فيها سوريا. ما الذي يحدث يا بني.
- هناك ثورة في سوريا ياابي.
- اي ثورة يا بني..نحن الذين كنا نصنع الثورات..فكيف تكون هناك ثورة لم نقم بها.
- هذه ثورة ضدنا يا ابي..الا تنظر حولك يا ابي لترى وتسمع صوت المفرقعات والصواريخ والمدفعية التي تنطلق..ان ابنك يخوض معركته الاخيرة.
- اعذرني يا بني فانا لا يمكنني ان اسمع ولا ارى تلك الاشياء التي تروي لي عنها..لا يمكنني ان اسمع الا صوتك.
- خرجت لدينا بدعة ياابي اسمها الربيع العربي. بدأت الشعوب تثور على حكامها الذين خدموها عقودا وكانوا يتطلعون الى خدمتها عقودا اخرى. 
- انا اعرف هذه الشعوب خير منك يا بني..لا يجب إن ترفع السوط عن ظهورها اذا اردت إن يكون حكمك مستقرا وبالك مرتاحا.
- لم يعد ولا غيره من الاسلحة يجدي يا ابي.
- ولكن قل يا بني اين بدأت هذ الثورة واين انتهت.
- انها بدأت في تونس يا ابي ولكنه لم تنته ويبدو انها لن تنتهي.
- ولكن تونس نظام جمهوري يا بني فكيف يثورون. 
- الثورة لم تعصف يا ابي سوى بالنظم الجمهورية.
- والنظم الملكية ما حالها يا بني.
- كلها يا ابي مستقرة وسعيدة ومنعمة وتدفع من مالها لتخرب النظم الجمهورية.
- ما ترييه لي غريب يا بني وغريب على مسامعي..لكن لو كنت اعرف ما ستئول اليه الاوضاع لغيرنا من النظام الجمهوري الى الملكي أبان حياتنا.  لتجعل انت ذلك نصب عينيك في المستقبل..يبدو ان المستقبل في العالم كله للنظم الملكية والرجعية. 
- يا ابي انا لا انشد اكثر من استمرار الاسرة..ليس مهما ان يكون النظام ملكيا او جمهوريا او حتى شيطانيا..المهم ان تستمر اسرتنا على العرش في دمشق.
- اسمع يا بني انت قلبك رهيف..طوال عمري كنت انظر اليك على انك مخنث ضعيف..آه لو كان باسل اخيك لكان حل مشكلته بضربة واحدة...اسمع يا بني انا حكمت سوريا كثيرا واعرفها اكثر منك..عليك بالشدة..عليك بالشدة..ادخل مدينة صغيرة فاسحقها تماما وسوها بالارض واجعل سكانها عبرة للاخرين.. سيتوقف الجميع في هلع.
- فعلت ما هو اكثر بكثير من ذلك يا ابي.
- هل تذكر حماة..افعل كما فعل ابيك في حماة. 
- كل قرية في سوريا اصبحت حماة بالنسبة لي يا ابي.
- ماذا تقول يا بني..ضحي بعشرة الاف لتنقذ البلد والعرش.
- يا ابي لقد كانت حماة بجانب ما افعله شجارا عائليا..انا يا ابي استخدم الطائرات والمدفعية وحتى الدبابات..ابي لقد قتلت اكثر مئة ألف..المنظمات الدولية تقول انهم 70 الفا ولكني اعرف انهم اكثر بكثير.
- مئة ألف ولم تهدأ الثورة...انا لا اصدق ما تقوله.
- بل صدق يا ابي..انه الربيع العربي..
- اي ربيع واي خريف هذا الذي تتحدث عنه. 
- ألم ياتكم القذافي يا ابي ليروي لكم عن حسنات الربيع العربي وينبئكم بما آلت اليه الاحوال. 
- سمعت يا بني انه جاء لدينا منذ بضع دقائق.
- يا ابي انه ميت منذ اكثر من عام ونصف.
- الزمن لديكم غيره لدينا يا بني.
- قابله يا ابي وسوف يروي لك المهازل.
- لا يمكنني ان القاه يا بني..حاولت ان اقابله فقالوا انه دخل قاعة التوضيب بمجرد ان وفد إلينا وقد يستمر فيها لسنوات.
- بمقاييس الزمن لديكم ام لدينا يا ابي.
- بل لدينا يا بني.
- وماذا تفعلون في قاعة التوضيب يا ابي.
- لا اريد ان اروي لك يابني حتى لا يشيب شعر رأسك ولكني التقيت فيها بكل القادة العرب الذين سبقوني الى العالم الاخر. 
- وكيف حالهم يا أبي؟.
- حالهم هنا لا يسر كثيرا عما كان عليه في الدنيا. قلما يتحدثون الى بعضهم البعض كما كانوا هناك، وكل منهم يهمس لنفسه بانه لم يكن اسوأ حكام عصره بل هناك من هو اسوأ منه. 
- يا له من عزاء مفجع يا ابي..ولكن قل لي يا ابي ماذا افعل.
- حاول يا ولدي ان تبحث لك عن حلفاء حتى لو كان الشيطان نفسه.
- حتى الشيطان يا ابي تنكر لي..لا يقف معي الان الا ايران وروسيا ونصر الله.
- من نصر الله.
- نصر الله يا ابي هذا رئيس ميليشيا في لبنان.
- يا بني الميليشيات لن تدعم موقفك بل ستدعمه الدول حتى لو كانت معادية حاول ان تستميلها..لماذا لا تحسن علاقاتك مع مبارك..صحيح انا كنت اكرهه ومازلت.ولكن ربما امكنه ان يفيد.
- ان مبارك في طرة يا ابي.
- سيعود يوما ما الى القاهرة يا بني..لن يظل في المصيف الى الابد.
- طرة ليست مصيفا يا ابي..بل هي سجن في مصر مثل سجن المزة لدينا.  
- صه..هل جننت..مبارك في السجن في مصر؟. تأكدت الان إن كل ما قلته لي ليس إلا هذيان.
- هي الحقيقة يا ابي صدقني...الربيع العربي، في اوج عنفوانه، اطاح به يا ابي والقى به في السجن.
- ما اسمع منك غريب يا بني..ولكن من الذي سجنه يا بني؟.
-  الجيش يا ابي هو الذي سجنه ليحميه من أيدي الناس الاخرين والا فتكو ابه.
- واين ابنه  يا بني الذي كان يعده ليخلفه...هذا الذي اسمه....اسمه...
- اسمه جمال يا ابي..انه في السجن ايضا معه..وابنه الاخر الاكبر علاء معهما هو الاخر.
- يا للهول..لقد فسد العالم..اي جيش هذا الذي ينقلب على قائده.
- لم يكن امامهم مفر يا ابي.
- وما حال جيشك يا بني.
- جيشي بخير يا ابي..ولكن يبدو ان المحنة أكبر من الجيش..لقد انشق البعض عني وتنكر كثيرون لليد التي امتدت اليهم بالخير..مناف مصطفى طلاس يا ابي الذي قربته مني تنكر لي وانشق على وفر الى الخارج.
- كان والده وفيا لاخر لحظة.
- فاروق الشرع ايضا يا ابي انقلب علي هو الاخر.
- انا لا اصدق اننا في سوريا لدينا هذا الكم من الغدر والخسة..ولكن من الذي يحكم مصر الان يا بني؟.
- انه رجل اسمه محمد مرسي...
- هذا ضابط من الجيش..اليس كذلك؟.
- لا يا ابي انه لا ينتمي الى الجيش.
- من يكون اذن محمد مرسي هذا؟.
- انه عضو في الاخوان المسلمين يا ابي...رجل لا يعرف من أمور الدنيا سوى الصلاة التي يؤديها في اوقاتها على أكمل وجه.
- تبا لهم..تبا لهم..الاخوان..لقد اضجروني حتى سحقتهم في حماة...وما موقف هذا الرجل منك يا بني.
- لا يكره احدا في الحياة مثلي ولا يذهب الى مكان الا ويؤلب العالم كله علي.
- انا اعرفهم اكثر منك...انا حزين لموقفك يا بني...ولكن يا بني من في ليبيا الان...الا يمكنك ان تنشد العون منهم.
- لا اريد ان اتحدث عن ليبيا...عندما بدأت الثورة في ليبيا ارسلت بعض الاسلحة الى القذافي..أردت إن اوقف انهيار الانظمة الجمهورية الثورية ولم يغفرها الليبيون لي ابدا. وهم يقتحمون اوكار القذافي ومعاقله يا ابي رفعوا الاعلام السورية ودفعوا مئة مليون دولار لتسليح المجرمين الذين يقاتلونني.
- من في الجزائر يا بني...الجزائر دولة عريقة في اشتراكيتها.
- عبدالعزيز ابو تفليقة.
- الحمد لله هذا من اعز اصدقائي منذ كان وزيرا للخارجية وكثيرا ما سهرت معه.
- ولكنه ليس في الجزائر.
- أين هو اذن يا بني.
- انه في فال دي جراس في فرنسا.
- وهل هذا سجن هو الاخر يابني.
- لا يا ابي هذا مستشفى عسكري فرنسي..والرجل مريض جدا وينتقل من مستشفى الى اخر.عندما انتهى من فال دي جراس نقلوه الى مستشفى آخر ولا ادري اذا كانت هناك مستشفى ثالث او رابع او انه ينزل ضيفا عليكم. 
- وماذا عن تونس يا بني؟
- تونس يا ابت هي التي انطلقت شرارة الكوارث منها..زين العابدين رئيسها فر الى السعودية.ويحكمها الان حزب النهضة صديق الاخوان في مصر.
- يا للكارثة..لقد فسدت كل النظم الجمهورية في عالمنا العربي...آه لو كنت اعرف ما سيحدث لكنت حولتها الى نظام ملكي...على الاقل كنا سنختفي وسط الانظمة الرجعية وتغطينا امريكا بقاعدة عسكرية وينتهى الامر عند هذا الحد.
- انظر يا بني...في حالة الكوارث لا بد مما لا بد منه..وموقفك يستلزم التعاون حتى مع الشيطان..لماذا لا تتفق مع اسرائيل  ليدعموك على ان تتنازل لهم عن الجولان.
- للاسف يا ابي لقد فات الوقت الذي كان يمكن لمثل ذلك الاتفاق ان يكون مجديا فيه. 
- ابحث لك عن مخرج يا بني..انا لا اريد ان يختفي عرش الاسد من سوريا..انا لا تعرف كم ضحيت وكم أدفع الان نظير حفاظي على هذا العرش..سأمضي الان يا بني فقد انتهى وقتي.

وتحرك الشبح حركة خفيفة مفاجئة ثم لم يلبث ان اختفى وتلاشى. وراح الاسد يحد بصره في الفراغ ثم عاد ادراجه الى مكتبه وهو ينتفض.