الصفحات

الاثنين، يوليو 04، 2011









بهلوانيات ثورية



سرقت الثورة المصرية او تمت مصادرتها وتحجيمها والقضاء عليها بصورة او اخرى ولم يعد منها سوي بقايا احلام وشذرات تاريخ وانين الام يصدر من اهل الشهداء والمصابين..يضاف الى كل ذلك بعض البهارات والبهلوانيات.

منذ ايام كنت اسير في الشارع عندما رأيت شابا يقف الى جانب حمار بدا عليه الاعياء والاجهاد وقد وضع الشاب امامه بعض قطع الكعك والبسكويت والخبز في طبق من البلاستيك وراح يربت عليه وينصح صاحبه بان يريحه ويقف به في الظل ويرعاه.

اما الحمار فقد راح يقلب في الطبق بتأفف ودون اقتناع اما لانه اكتشف انها منتهية الصلاحية او ان طبيبه أي البيطار الذي يعالجه نصحه بالابتعاد عن الدهون والسكر، في حين جلس صاحب الحمار على عريش العربة خلفه كومة من البطيخ وهو يستمع الى الشاب في سخط عبوس. وبدا ان الشاب لو أطال الحديث معه قليلا فربما رفع سوطه وهوى به عليه.

هذا شاب متحمس للثورة وجد ان خيراتها عمت البشر جمعا في بر مصر ولم يعد الا ان تمتد لتشمل ايضا عالم الحيوان. فالحيوانات ايضا علينا لها حقوق ولكن ضياع حقوق الانسان اصلا في مصر جعلنا نتغاضى عنها. ويرى الشاب انه قد آن الاوان لاعادة هذا الحق السليب للحيوانات لانها في الواقع لن تثور ولا تعرف الطريق لميدان التحرير.

ونحن بطبيعة الحال لسنا ببعيدين عما تعرضت له الحمير والبغال والجمال وكل دواب الحمل بعد معركة الجمل من تشكيك وريبة واضطهاد يقال انه وصل في بعض الاحيان الى حد منع الطعام والشراب عنها وتعريضها للضرب المبرح وحبسها لايام دون ان توجه اليها أية اتهامات.

موقف آخر كوميدي ولكنه مؤلم مررت به، فقد نصحني صديق مشهود له بالغباء ان اتوجه الى مكتب رئيس الوزراء لاقدم طلب لنقل ابنتي. والواقع ان ابنتي سارة تدرس في المنزل منذ عامين ولا تذهب الا الى الامتحانات في بنها. وكانت الاسرة تقيم كلها في بنها عندما التحقت بالدراسة هي وشقيقتها ثم انتقلنا الى القاهرة ونجحنا منذ عامين في نقل شقيقتها ولكنها ظلت هناك. وقيل في ذلك – كمبرر لرفض نقلها انه لا يوجد مكان لها في مدرسة شقيقتها بجمهورية القاهرة التي لا تجد نفسها ملزمة بأي حال من الاحوال بقبول اخطاء وزارة التعليم في جمهورية بنها الاستوائية وان التماس الجغرافي بين الدولتين ومشاعر الوحدة الجارفة لدى الشعبين لا تكفي للتغاضي عن اختلاف المناهج وتباينها بين دولة من العالم الاول واخرى من العالم الثالث او الرابع.

وقيل لنا ان الوزارة - بعد الاستعانة بخدمات اجهزة المخابرات المصرية واجهزة الدول الصديقة – توصلت الى اننا نتآمر على التعليم في مصر واننا ارسلنا الاولاد عمدا الى بنها لكي يتم قبولهم في سن اصغر وبالتالي نهدد المبدأ الذي تقوم عليه الدولة المصرية الرشيدة الا وهو تكافؤ الفرص.

ولكي نقنعهم بحسن نوايانا واننا لم نهدف اطلاقا الى سرقة هذا المبدأ العظيم الذي اتضح فعلا انه كان دستور الدولة المصرية طوال حكم مبارك وما زال، قلنا لتقبلوها في الصف الثاني الابتدائي أي اننا نلغي عاما دراسيا كاملا ادته الطالبة ونجحت فيه. ولكن اتضح اننا نسعى الى ارتكاب جرم ابشع قد يهون دونه مبدأ تكافؤ الفرص وهو تبديد اموال وموارد الدولة المصرية. فكيف يمكن ان تتغاضى الدولة عما تكبدته طوال عام دراسي كامل من عناء وأموال ووقت وموارد و.... مع سارة لكي نتنازل عنه بسهولة هكذا. والواقع ان سارة لم تكلف الدولة سوى اوراق الامتحان والوقت الذي استغرقه المدرسون لتصحيحها. قلت لهم اذن اقبلوها في الصف الثالث عادوا فقالوا ان السن صغير.

فهل يعقل بالله عليكم ان يعهد لمثل هؤلاء الاشخاص بالاشراف على تطوير التعليم. وهل هناك تعليم بالفعل في مصر. هناك حقائق مرة لا يعرفها كثيرون وهي ان بعض الاشخاص في القرى ممن حصلوا على الابتدائية وقيل لي حتى الاعدادية يجدون صعوبة بالغة في قراءة عناوين الصحف بل وحتى تهجي اسمائهم واسماء القرى التي يعيشون فيها بالطريقة الصحيحة.

والواقع اننا بدلنا مجهودات جبارة في العهد البائد وقلنا انها فرجت مع الثورة ولكن كل ما في الامر ان الفساد كان موضع ادانة واستنكار في النظام البائد اما الفساد الحالي فهو فساد مقنن وثوري ولا يمكن لاحد ان يدينه والا اعتبر من اعداء الثورة ومن العناصر الرجعية ومن مقاتلي موقعة ووترلو المصرية المعروفة تاريخيا باسم موقعة الجمل.

كان صديقي قد قال لي ان عصام شرف رئيس الوزراء الثوري الذي حصل على منصبه في الميدان يدرس الامور التي استعصت على الجهات الاخرى حسمها. وذهبت الى هناك وانا متوجس فكل المؤشرات تقول انه لا امل في شيء في مصر وان مصر ما بعد الثورة هي مصر ما قبل الثورة ان لم تكن اسوأ. صحيح ان مبارك كشخص قد رحل ولكن كل النظام مازال قائما بقضه وقضيضه ومازال يتلاعب باحلام المصريين ومشاعرهم ومقدراتهم كما كان الحال في العهد البائد.

المهم اني ذهبت وانا غير متحمس ووقفت في صف طويل في وكر في شارع خلفي لمجلس الوزراء الى ان ادخلوني الى مكتب يرتفع عن الارض درجات حيث تجلس ويقوم موظف بتسجيل بيانات بطاقتك الشخصية ثم تصعد الى الرجل الذي يستقبل طلبك والذي يقول انه احد مستشاري شرف.

انها تجربة حقيقة مثيرة ولو كان لدي الوقت لترددت كل يوم على المكتب فالشكاوى التي حملها المصريون الى المكتب غريبة وقد جعلتني في الواقع انصرف عن مشكلتي لمتابعتها. وتشعر بعد فترة من متابعة الشكاوى ان هذا الشعب المسكين سيظل ضحية الى الابد. انه الشعب الذي سيق بالملايين لبناء الاهرامات وحفر قناة السويس والقتال في جيش السلطة وان كل ما طرأ من تغيير عبر هذه القرون لم يتجاوز تغيير شخص خولي الانفار او مشرف العمال وسواء كان الخديوي اسماعيل هو الذي يتولى السلطة او مبارك او طنطاوي ورفاقه، فالامر كله سيان وليس على الانفار ان يقيموا ظهورهم الا لكي "يتشربوا" في شكل ثورة او انتفاضة او غضبة ثم يعودوا للانحناء مرة اخرى.

دخل رجل مسن واجلسوه على مقعد وبيده ورقة قال انها طلب تعويض فقد هجم البعض على ارض زراعية له وخلعوا شتلة اشجار منجو يصل سعرها الى 300 الف جنيه اثناء الانفلات الامني وهو يريد ان يعوضه شرف بهذا المبلغ. آخر جاء يشكو من ان صاحب البيت الذي يسكنه يريد ان يطرده مع انه يسكنه منذ 40 عاما ويبدو انه كان مقيما مع جده ويريد ان يرث شقته بالايجار. ونجحت انا والرجل الذي يتسلم الطلبات في اقناعه بان القضية قانونية لا دخل لشرف بها وان الرجل لو صدر حكم لصالحه ما استطاع شرف ان يوقفه. وانصرف هذا دون ان يقدم شكوى رغم انه اضاع ساعات واقفا في الشمس. آخر جاء يشكو من ان وزارة الصحة اضاعت طلب العلاج على نفقة الدولة الذي اخذه. وتعين ان يقدم الاوراق مرة اخرى.

اما اكثر شيء ادمى قلبي فهي سيدة يبدو انها لا تكتب ولا تقرأ وكلفت احدا ما بكتابة شكواها وطلبت مني ان اقرأها لها قبل ان تقدمها. ولما قرأتها قالت انه قليل جدا - أي كلمات الشكوى - وطلبت مني ان ازيدها بضعة اسطر عن جشع التجار وان كل الزيادة في المعاش او الراتب تذهب اليهم. انها سيدة مصرية جاءت تشكو الغلاء لرئيس الوزراء. انها لا تطلب شيئا لنفسها ولكنها تشكو من غول كبير ومخيف وبشع يشكو منه كل المصريين وهو الغلاء. وقد وقفت في هذا الصف الطويل واضاعت ساعات طويلة متخيلة ان رئيس الوزراء لديه زر سحري سيضغطه فتنخفض الاسعار فورا. وقال لي الرجل الذى يتلقي الطلبات ان سيدة جاءت منذ ايام تشكو من انها لم تتسلم ارز التموين لشهر ابريل. وهي شكوى في الواقع تثير من الالم والحزن اضعاف ما تثيره الشكاوى العادية وتؤكد ان احلام الانصاف ورفع الظلم والعدالة الاجتماعية التي كانت احدى اهم مرتكزات الثورة ما زالت حلما بعيد المنال.

وعندما قدمت الطلب للرجل كتب اعلاه "وزارة التربية والتعليم" ووضعه الى جانبه وانصرفت وانا احمل بين ضلوعي احزانا وهموما تفوق كثيرا ما دخلت به الى الوكر الموجود في شارع جانبي بمجلس الوزراء.