المصريون يشعلون الثورات ويخوضون جحيمها ببسالة منقطعة النظير ولكنهم لا يعرفون كيف يديرونها او يستفيدون منها او حتى يتحركون خطوة صحيحة بعيدا عن ميدان الثورة. واللحظة التي يغادرون فيها الميدان تجدهم وقد تاهوا في الطرق والشعاب والوديان مثل قطيع ضال لا يلبث ان ينفرد به أي ذئب او قاطع طريق. ولا يتجمعون الا بعد ان يكونوا قد فقدوا كل شيء ليصطفوا في واد غير ذي زرع يقف على رأسهم راع شرس يفوقه كلابه شراسة وعنفا.
لقد اشعل المصريون ثورة رائعة للتخلص من طاغوت قبع على صدورهم على مدى ثلاثة عقود. ولكن ما ان تنحي مبارك حتى بدأت الشروح في جسد الثورة وتمثل ذلك في الكوارث التي تبعت تنحيه على مدى اكثر من عام ونصف من ماسيبرو الى محمد محمود الى مجلس الوزراء الى بور سعيد الى العباسية، لتنتهي بانتخابات الرئاسة التي كشفت ان المصريين حتى لا يعرفون كيف يصوتون في الانتخابات، في تكرار فاضح للخطأ الذي ارتكبوه في انتخابات مجلس الشعب.
لقد كان عذرنا فيما سبق ان السلطات تتلاعب بالانتخابات وتصوت بالنيابة عنا وترتكب كل الموبقات التي من شأنها تزييف ارادة الشعب ومنعه من اختيار ممثليه ونوابه او من يتكلم باسمه. ولكن انتخابات مجلس الشعب وانتخابات الرئاسة – حتى الان على الاقل – لا يمكننا ابدا ان ندعي ان السلطات تدخلت فيها بأي حال من الاحواال لتحابي طرفا ضد الاخر. ومن ثم فالكارثة فينا نحن وليس في السلطات. نحن الذين لا نعرف كيف نضع الوطن في المرتبة الاولى كمرشحين ولا نعرف كيف نصوت كناخبين.
ناهيك عن ان مجرد التحاق احمد شفيق وعمرو موسى المحسوبين بشدة على النظام البائد بسباق الرئاسة يمثل سابقة غريبة على أي ثورة في العالم، من المدهش حقا ان يحصل احدهم وهو الفريق احمد شفيق على اصوات تمكنه من خوض اعادة السباق. ورغم ان هذا الكلام ليس مؤكد حتى الان الا ان نذره تلوح في الافق. ومن الواضح الان ان الإعادة ستكون بين شفيق ومحمد مرسي مرشح الحرية والعدالة وهما بكل المقاييس لم يكونا ابدا بأي حال افضل المرشحين للرئاسة بل ان احدهما كان رئيس وزراء موقعة الجمل والصديق المقرب من مبارك والثاني التحق بالسباق في اخر لحظة بعد ان تم اختياره كبديل لخيرت الشاطر مرشح الجماعة الاول الذي خرج لعوائق قانونية.
كثير من المصريين نسوا ان هناك ثورة وتناسوا ان هناك دماء نقية اريقت من اجلهم.. من اجل ان يعيشوا غد افضل وان يعيش اولادهم حياة ادمية اكثر مما عاشوا هم.. نسوا الهوان والمذلة التي عايشوها منذ ثورة 1952 والهوان الاكبر الذي حاصرهم على مدى ثلاثة عقود من حكم المخلوع. ونظروا الى مصالحهم القريبة وطموحاتهم القصيرة المدى ولم يتطلعوا الى ما يتجاوز اقدامهم الى مصر الوطن الكبير الذي يسع الجميع تحت مظلة الحرية والعدل والاخاء والمساواة.
نحن الان بعد عام ونصف من الثورة نوشك ان نجعلها حطاما تذروه الريح ونواصل حياتنا المعتادة في عهد المخلوع يحمل كل منا نيره فيها ليورثه لاولاده واحفاده من بعده. هل ضحى خيرة شباب مصر بارواحهم من اجل هذا المستقبل المظلم؟. ماذا سيقولون لنا وهم يطلون علينا من خلف سجف العالم الاخر؟. بل ماذا سنقول لاولادنا واحفادنا عندما يقرأون في كتب التاريخ اننا اضعنا الثورة التي طالما راودت اجيالا كحلم تحقق ولمسناه بأيدينا ولكننا أبينا الا ان نئده ونضيعه مثل كثير من الاحلام.
ان الايام القادمة هي اصعب ايام في تاريخ مصر. مصر تقف على مفترق طرق وتنادي من يأخذ بيدها في الطريق الصحيح. ونحن الان امام خيارين كلاهما مر ولكن علينا ان نختار الاقل مرارة. وعلينا ان نوازن بين فرص استمرار الثورة وبقائها ولو كان بقاءا كامنا، وبين موتها الأكيد ودفنها وتشييعها واعتبارها كأنها لم تكن واعتبار الذين ضحوا من اجلها بدمائهم وحياتهم ضحايا وباء او طاعون من الاوبئة الكثيرة التي عصفت بمصر في عصور سابقة.
لننظر الى ما يمكن ان يترتب عليه نجاح شفيق. شفيق من النظام القديم تربى في احضانه ونشأ على الولاء له والسير على هداه والاقتداء به ولم يكن غريبا ن يصرح انه يعتبر مبارك مثله الأعلى وهو كلام طبعا لا يمكن لأحد ان يشك في صدقه فيه. واذا تولى السلطة – لا قدر الله - سيتسنى له احياء كل مؤسسات النظام القديم خلال السنوات الأربع الاولى من حكمه حتى لو لم يحكم غيرها. ومعنى ذلك ان يعود كل النظام البائد بقضه وقضيضه والحزب الوطني وعفنه وتعتبر الثورة من الذكريات الجميلة او حتى يتم تحريفها وتشويهها بحيث تعتبر نكبة. وللاسف فان بعض المصريين الان ينظرون اليها على هذا الاساس.
أما محمد مرسي، فرغم المآخذ الكثيرة على الاداء البرلماني للاخوان وعلى ظروف ترشحه الا انه لن يسعى الى اعادة انتاج النظام القديم، واقصى ما يمكن ان يفعله هو ابرام بعض صفقات مع المجلس العسكري.
صحيح هناك الكثير من الافكار التي لا نقبلها لدى الاخوان سواء كانوا في البرلمان او الرئاسة ولكن الامور لن تستمر الى ما الا نهاية، فهناك انتخابات بعد اربع سنوات. وعلى الأقل عندما يكون الاخوان في الرئاسة والبرلمان سيوضعون امام الاختبار الحقيقي الذي طالما تقنا اليه. لن يكون امامهم ذريعة يتعللوا بها ويسوقونها على انها هي المعوق الذي عرقل ادائهم ونهوضهم بالبلد. ومالم يكن ادائهم كبرلمان ورئاسة على المستوى المطلوب فصناديق الاقتراع موجودة ولن يكون بوسعهم ان يؤبدوا وجودهم في السلطة. وعلى اقل القليل، فان الثورة وان ظلت مكبلة ومشلولة في عهدهم - على اسوأ الفروض - فانها لن تموت تماما ويمكن ان يأتي يوم ويرحلون لتزدهر مرة اخرى وتحقق اهدافها الكاملة.
بقى ان اقول ان الانتخابات كشفت ان لدينا في مصر بشر لا يستحون ولا يعرفون للحياء سبيلا وان مصر تزخر بمنعدمي الضمير والاخلاق والفهم والبشر الذين لا يستحقون البقاء على ظهر الارض يوما واحدا. وهؤلاء يمثلون عائقا امام نهضة هذا الشعب وسدا منيعا امام تقدمه والا فما معني ان يحصل الفلول على هذا العدد الكبير من الاصوات؟.
كذلك كشفت الانتخابات عن القدرة الغريبة للاخوان المسلمين على الحشد بصورة ما كان من الممكن تخيلها حيث دفعوا بمرشح في اخر لحظة قبل اغلاق باب السباق ومع ذلك تمكنوا من اجتياز الجولة الاولى به ليدخل الاعادة. ولكن هذه القدرة السحرية على الحشد قد تكون حجة عليهم عندما يثبت انهم لم يستخدموها الا في الوصول الى كرسي الرئاسة. ومطلوب منهم ان يبرهنوا ان هذه القدرات جاهزة للاستخدام في أماكن اخرى مثل النهضة العامة للبلد وليس نهضة فريق الاخوان. والاخوان بالمناسبة، كما تقول عدة تقارير، كانوا هم الاكثر مخالفة في انتخابات الرئاسة بتقديم رشاوى انتخابية وان لم يكونوا هم وحدهم الذين فعلوا ذلك.
حيوية المجتمعات تقاس بقدرتها على التطور والتكيف مع كل ما هو جديد وهضمه واستيعابه. وعدم قدرتنا على تقبل الثورة الى الان والتعايش معها بل واعاشتها يعني اننا مجتمع وصل الى درجة الجمود والتحجر ولا امل يرجي منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق