الكاتب
الفرنسي جي دي موباسان له قصة قصيرة مشهورة جدا اسمها "العقد" تذكرنا
باحوال الثورة المصرية. وتروي القصة حكاية فتاة جميلة من اسرة من صغار الموظفين
تتزوج من موظف صغير ايضا ولكنها لا تشعر ابدا بالرضا عن حياتها وتعتقد ان جمالها
هذا يستحق اكثر من مجرد هذه الزيجة وهذه الحياة. ويسعى زوجها قدر طاقته المحدودة الى
اسعادها ويستطيع ان يحصل لها على دعوة لحضور حفل راقص في وزارة المعارف الفرنسية
حيث يعمل. ويدبران ثمن الفستان وتستعير هي عقدا من الماس من صديقة لها وتعيش ليلة
كالحلم حيث تجد نفسها محط انظار الرجال واعجابهم، يسعى الجميع الى مراقصتها والتودد
اليها، وتحظى باهتمام الوزير نفسه.
وتعود
الى البيت نشوى بحلمها الجميل ولكن قبل ان تخلع ملابسها تكتشف انها فقدت العقد.
وتنقلب حياة الاسرة من حال الى حال وبعد ان يقنطا تماما من العثور عليه يشتريان
بديلا للعقد لرده ويستدينان مبلغا طائلا يستمرا
في سداده وسداد فوائده على مدى عشر سنوات تقوم هي خلالها بأعمال المنزل
وشراء الخضروات عوضا عن الخدم ويقوم زوجها بعمل اخر بعد انتهاء عمله في الوزارة
وتعيش حياة اقرب الى حياة الفقراء الكادحين فتتبدل ملامحها ويزوي جمالها الاخاذ
وتتبدى حتى في ملابسها مظاهر الحياة الخشنة.
ويوما
ما، بعد ان تنتهي من سداد كل الديون، تلتقي صدفة بصديقتها التي اعارتها العقد وتدهش
صديقتها لمرآها والخشونة التي رانت على ملامحها. ولا تجد هي بأسا من ان تروي لها حكاية
عقد الماس وكفاح السنوات الطوال ولكنها تعلم من صديقتها ان العقد المفقود لم يكن
من الماس بل من الزجاج البراق وان ثمنه زهيد للغاية.
المصريون
يشبهون هذه السيدة المسكينة فقد عاشوا ليلة 11 فبراير من عام 2011 كتلك الليلة
الراقصة حيث هتفوا وغنوا ورقصوا حتى الصباح واسرفوا على انفسهم في المتعة واللهو.
ولكن عندما عادوا الى منازلهم اكتشفوا ان العقد ليس موجودا في جيب أي منهم فقد
وضعوه هم بانفسهم في جيب المجلس العسكري.
ولكن
المجلس العسكري انكر انه رآه او سمع به او يعرف عنه أي شيء. وهبطوا الى الشوارع
يسألون كل عابر سبيل وكل قائد سيارة وكل رجل يجمع القمامة اذا كان قد رأى العقد.
ولكنهم كانوا متأكدين ان العقد لدى المجلس وان المجلس لا يؤتمن على الاشياء
الثمينة. وبدأوا يتشاجرون شجارا مريرا وهم يبحثون عن العقد ويلقون بالاتهامات على
بعضهم البعض بل ويقتتلون حتى نسوا العقد تماما وانصرفوا عنه الى القتال. وهذا هو
ما يحدث امس واليوم للاسف في العباسية...قتلى بلا سبب وضحايا بلا قضية وعدم وجود
ادني احساس بحرمة الحياة الانسانية وقدسيتها.
ما يحدث
في العباسية يشير الى ان الثورة تتنازعها قوى كثيرة، فريق يحاول دفعها الى الامام
وفريق اخر يجرها الى الخلف وفريق ثالث يدفع بها الى دائرة تصفية الحسابات وفريق
رابع يحاول استعراض قوته تحسبا لاي طاريء في المستقبل القريب. ومصر بين هذا وذاك
حائرة تدفع ثمن ذلك بالدم الطاهر الذي يراق امام اعيننا. وعندما تصل الامور بشعب
الى حد القتل حرصا على المصالح المادية ويصل الاستهتار بحياة الناس الى هذه الدرجة
لا يكون هناك امل بالمرة في ان تمضي البلاد خطوة الى الامام ولا حتى الرجوع الى
النقطة الخلفية التي انطلقت منها قبل الثورة. وهذه هي النتيجة التي يجب ان نعد
انفسنا لتقبلها حتى لا تحلق بنا الاوهام عاليا ثم نرتطم بالارض في عنف.
المصريون
مازال لديهم، رغم كل شعارات الثورة، ميلا الى تأليه شخص سواء كان هذا الشخص رجل
دين او رجل عسكري او حتى شخص عادي يرفعونه الى مرتبة الالهة. وسواء كان هو مقتنعا
بذلك من عدمه الا انه لا يجد غضاضة في استغلال اوهامهم بل والتضحية بهم من اجل
اغراض انانية وذاتية لا تمت الى الصالح العام بسبب. وكلما وقعت كارثة قلنا انه كان
يمكن تجنبها وكان يمكن تجنب اراقة الدماء ولكننا لا نتعلم ولا نلبث ان نسعى سواء
بوعي منا او بدون وعي الى اراقة المزيد من الدماء.
هناك
تقارير كثيرة تجمع على ان المجلس العسكري استخدم البلطجية وهو امر ربما يمثل
بالنسبة له هروبا من المسؤولية بدلا من استخدام جنود الشرطة العسكرية بالزي الرسمي
ولكنه لا ينفي المسؤولية الاخلاقية ولا التاريخية عنه. ورغم ذلك علينا ان نتذكر
جيدا ان وزارة الدفاع المصرية ليست سفارة اسرائيل وان محاولة اقتحام وزارة الدفاع ليست
من الثورية ولا الوطنية في شيء، بل هي من الأعمال الغبية التي لا معنى لها ولا
جدوى منها، وهي اساءة لكل مصري شريف. المجلس العسكري ليس هو الجيش المصري وانما هو
في الوقت الحالي مجرد جهة تنفيذية تسيء ادارة البلاد في المرحلة الانتقالية وسط
اجواء عاصفة وسيئة ساهم المجلس نفسه وقوى سياسية انتهازية اخرى في صنعها.
المجلس
العسكري يشعر في موقعة العباسية وكأنه يقاتل في اخر قلاعه، فهو اشبه بوحش ضار عاث
في الغابة فسادا ثم لجأ الى عرينه للاحتماء به عندما اجتمع عليه كل اهل الغابة. ولم
يكن غريبا ان يستخدم احد اعضاء المجلس العسكري لفظ العرين في المؤتمر الصحفي امس. ومحاصرته
في العرين لن تجدي فتيلا لانه سيخرج ليعمل مخالبه فينا من حين لاخر ثم يركض الى
العرين. لقد ضاقت عليه ارض مصر كلها بما رحبت وظل يتقهقر حتى لم يعد له من وقاء
سوى اسوار قلعته المحاطة بالجنود والاسلحة. المجلس في وضعه الحالي يذكرنا بمكبث في
لحظاته الاخيرة عندما تحركت غابة بريمن الى قصره وتكالبت عليه الجيوش ولسان حاله
يقول مثل مكبث : "قيدوني. شدوني الى
سارية كما يشد الدب. لا استطيع الفرار ولا بد من القتال حتى النهاية". غير ان
المجلس العسكري لا ينتظر مصير مكبث بل يمكنه في اسوأ الاحوال ان يغلق قلعته على
نفسه ويتركنا في الخارج نهبا للبلطجية بعد انتهاء مولد الرئاسة.
مصر
دولة فريدة في كل شيء وهي الدولة الوحيدة في العالم تقريبا التي تجد البلطجية فيها
يعملون بالسياسة سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة. والبلطجية سيدخلون التاريخ
باعتبارهم من القوى الهامة التي اثرت على مجرى الثورة، بل ربما يمكننا ان نقول
يوما ان البلطجية هم الذين كتبوا تاريخ الثورة. وربما يدفعهم ذلك الى السعي الى
شكل من اشكال التنظيم النقابي لا يلبث ان يتحول الى حزب سياسي. وساعتها لن نندهش
ان نجد مصر يوما ما خاضعة لحكم بلطجية فعليين بدلا من البلطجية المستترين الذين
يحكمونها الان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق