الصفحات

الأحد، مايو 06، 2012

أفراح العباسية



  

فرق هائل بين الجنود الذين كانوا يعبرون عن فرحتهم بانتصار اكتوبر وكسر الكبرياء الاسرائيلي وتحرير جزء من ارض سيناء في عام 1973 والجنود الذين راحوا يرقصون أول امس احتفالا بنجاح فض الاعتصام وتحرير منطقة العباسية من أيدي المعتصمين. الفارق بين الصورتين يروي حكاية تحولات كبيرة في حياة المصريين شعبا وجيشا على مدى ما يقارب 40 عاما.

ومثلت معاهدة السلام قيدا على الجيش المصري في تعداد القوات والانتشار في سيناء التي كانت ميدان اخر معاركه الكبرى ضد العدو الاسرائيلي. ومنذ تلك الحرب لم يقم الجيش بمهام عسكرية كبرى الا خارج الاراضي المصرية، في مساندة القوات الامريكية في تحرير الكويت في عام 1991 والقيام ببعض مهام حفظ السلام في البوسنة وفي دارفور بالسودان.

ومع سيطرة ثقافة السلام والاحساس بالاطمئنان المؤقت للجبهة الشمالية اتجه الجيش الى المشاريع الاقتصادية وبدأ ينمي امبراطورية ضخمة من الأعمال يقال انها تصل الى ما يتراوح بين 30 الى 40 في المئة من اقتصاد البلاد. ولعل ذلك كان واضحا عندما منحت القوات المسلحة خزينة الدولة مليار دولار في العام الماضي.

غير ان الثورة تبعها حالة من التنقيب في اشياء كثيرة كانت اشبه بالمحرمات في مصر من قبل ومنها التساؤل حول دور المؤسسة العسكرية في البلاد واقتصادها وميزانيتها ودورها في الثورة، وتزامن مع ذلك بروز بعض حالات السخط المكتوم داخل صفوف الجيش نفسه والتي تبدت في حركة بعض الضباط الذين انحازوا الى الثوار في الميادين غير عابئين بالعواقب التي يمكن ان تصل الى حد عزلهم من وظائفهم وتقديمهم الى محاكمات عسكرية.

لقد أدت الثورة الى حالة من الفضول وحب التلصص على المؤسسة العسكرية وتمحيص اشياء كان التطرق اليها من قبل يعد امرا صعبا للغاية. ويمكننا ان نقول ان الثورة احدثت تغيرا نوعيا كبيرا في العلاقات المجتمعية بين الجيش والشعب وحتى داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وربما كانت تلك إحدى حسنات الثورة القليلة.

والواقع انه حدث نوع من التدفق المعلوماتي حول المؤسسة العسكرية بعد الثورة وتناول كثيرون الحديث عنها بصراحة وبدون هوادة. وما يحدث في مصر من تناول المؤسسة العسكرية بالنقاش هو امر حدث ويحدث في اسرائيل منذ فترة طويلة وهو ما يرصده كتاب Israel and its Army: From Cohesion to Confusion للباحث الاسرائيلي ستيوارت كوهين والصادر في عام 2008 عن دار نشر روتليدج ببريطانيا. ويدرس الكتاب التحولات الجارية في العلاقات المدنية-العسكرية والعلاقات المجتمعية العسكرية داخل اسرائيل. ويتطرق الكاتب في بحثه الى كل ما يخص الجيش الاسرائيلي وعلاقته بالمجتمع من سياسات التجنيد الى المثلية الجنسية وتجنيد المتشددين ومحاولات التهرب من الخدمة والميزانية. ورغم ان كاتب هذه السطور ترجم هذا الكتاب منذ عدة سنوات لدار نشر كبرى في القاهرة، الا انني علمت مؤخرا ان هناك اتجاه لعدم نشر الكتاب، ولم يعلن عن سبب محدد.

 

وللاسف الشديد كان الجيش المصري في عهد مبارك يستخدم في مهام لخدمة المصالح الاقتصادية للنخبة الحاكمة وايضا في خدمة اهدافها السياسية ومعاقبة خصومها، وهو أمر كان يثير غضب الناس ذوي العلاقة بهذه التحركات. وسوف اذكر بعض الامثلة التي تحضرني في هذا الصدد: في الثالث من ديسمبر عام 2007 قامت قوات من الجيش المصري باحتلال جزيرة القرصاية في وسط النيل في الجيزة ونصبوا فيها الخيام ورفعوا عليها الاعلام. وقيل في ذلك ان الرئاسة هي التي ارسلت الجنود في محاولة لارهاب الاشخاص المقيمين عليها لمغادرتها. وذكر في اسباب ذلك الكثير من المبررات منها ان مجموعة من المستثمرين تستعد لاقامة مشاريع سياحية ضخمة على الجزيرة بدعم اولاد مبارك. ولكي نعرف مدى التحول الذي حدث بعد الثورة نقول ان الصحف بما فيها المستقلة لم تذكر الجيش باسمه انذاك بل قالت انها "جهة سيادية".

 

عقب صدور القرار الجمهوري رقم (66) لسنة 2009 والخاص بضم مساحة 16409 فدان من الاراضي الموجودة على طريق مصر الاسماعيلية الصحراوي الى مدينة العبور، ارسلت بعض وحدات الجيش لحراسة الاراضي في هذه المناطق ومنع ادخال مواد البناء إليها بحجة منع البناء العشوائي. واغلب هذه الاراضي مباعة لمواطنين عاديين من قبل حائزيها الاصليين. وقيل في تفسير ذلك انه كانت هناك محاولة لانتزاع هذه الاراضي من حائزيها تحت ذريعة عدم صحة ملكيتها وانه كانت هناك مشاريع لبعض الشخصيات النافذة في النظام ومنها البيت الرئاسي بشأن هذه الاراضي، وان صدور القرار الرئاسي كان مقصودا منه التمهيد لانتزاعها. ولكن الجنود على أي حال انسحبوا من اماكنهم بعد الثورة.

 

اما الامر الذي يشبه الظاهرة ولا يعد حادثا منفصلا مثل الحادثين المذكورين اعلاه بل جرى التوسع فيه حتى بعد الثورة فهو استخدام الجيش في اصدار احكام من محاكم عسكرية ضد مدنيين مناوئين للسلطة. كان ذلك امرا عاديا في عهد مبارك ولكنه لم ينته بعد الثورة بل زاد اعداد الاشخاص الذين يقدمون للمحاكم العسكرية من المدنيين وهي محاكم استثنائية، على الرغم من الدعوات المتزايدة بعدم تقديم المدنيين الى محاكم عسكرية. 


والمحاكم العسكرية ليست هي الخطأ الوحيد للمجلس العسكري في الفترة الانتقالية بل ان الامور تشير الى ان المجلس يكرر نفس الاخطاء احيانا بحذافيرها ولاسيما في الرد على المظاهرات والاعتصامات. واعتصام العباسية رغم عدم عقلانيته ولا منطقيته، الا ان الرد على خطأ لا يكون بخطأ افدح. وسحل المعتصمين واطلاق البلطجية عليهم حتى لو كانوا يعتصمون في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ هو سلوك غير منطقي هو الاخر. والجنود الذين كانوا يرقصون لا ينظرون الى الأمر على انه خلاف وصراع بين الجيش والمدنيين قابل للتفاوض والحل، بل ينظرون الى فض الاعتصام على انه نجاح لهم في المهمة التي كلفوا بها.

الجيش المصري بعد الثورة بحاجة الى اتباع شفافية مطلقة في كل شيء ولاسيما في الجوانب المالية لانه يستحيل الفصل بين الجانب العسكري والمدني في الانفاق في المجتمع. ومن الامور الطبيعية جدا ان تجد الدول تقلص انفاقها العسكري في حالة الازمات المالية ولعل ابرز مثال على ذلك امريكا التي تخوض حربين في اسيا وتهدد بخوض ثالثة في نفس القارة.


ليست هناك تعليقات: