الصفحات

السبت، فبراير 18، 2012








مصر بين مشروع مارشال ومشروع الفيلد مارشال


كنت اتوقع، عملا بحسن النية والاخوة العربية الممتدة من الخليج الثائر الى المحيط الهادر، ان تقوم الدول العربية بتوفير مساعدات او قروض لمصر بعد الثورة حتى تنهض من عثرتها التي اوقعها فيها صديقهم الرئيس المخلوع، فيما يشبه مشروع مارشال الامريكي لاعادة بناء اقتصاد اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن للاسف لم تقدم الدول العربية حتى الان أي مساعدة لها قيمة لمصر وذلك استجابة لنصائح العم سام بعدم تقديم أي معونات للقاهرة. والعم سام باعتبار انه خواجة، يفهم اكثر من العرب ما يصلح لهم وما يضرهم وينفعهم، اكثر مما يفهون هم بكثير.

والواقع ان العرب ادمنوا انفاق اموالهم اما لخدمة مصالح امريكا او لتمويل حروبها ضد بضعهم البعض او لشراء اسلحة منها بمبالغ مهولة يحتفظون بها في مخازنهم ولا يستعملونها حتى يأكلها الصدأ، ولكنها على أي حال تعود على المصانع الامريكية ومقاولي الدفاع الامريكيين بالفائدة وتسهم في تخفيف البطالة في بلاد العام سام.

وبدءا من دعم جماعات الكونترا في نيكارجوا ضد الساندينستا في منتصف الثمانينات بأموال سعودية الى تمويل الجيش الجمهوري الايرلندي باموال ليبية الى تمويل حروب امريكا في افغانستان والخليج، نجد ان الاموال العربية التي يتم تبديدها واهدارها كانت تكفي للقضاء على البطالة وانعاش الاقتصاد ليس في الدول العربية فحسب بل في كثير من الدول الافريقية والاسيوية الفقيرة المحيطة بنا.

وفي كل المغامرات العسكرية في الخليج، كانت الاموال العربية هي الركيزة الاساسية حتى ان انتوني كوردزمان الباحث بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن يقول في احد كتبه ان امريكا كانت تكلف دول الخليج مقابل Wear and Tear لحاملات الطائرات والسفن في حرب العراق 1991. والاصطلاح الانجليزي معناه معدل الاهلاك. أي اننا لو افترضنا مثلا ان قيمة الحاملة 100 دولار والعمر الافتراضي لها هو مئة شهر، يكون تكلفة وجودها في الماء لمدة شهر دولار واحد كانت دول الخليج تدفع حسابه ولكن باليوم وربما بالساعة. واذا كانت امريكا لاتتورع عن تحميل دول الخليج مقابل معدل الاهلاك فلاشك ان كل شيء كان يتم دفعه بما فيها مرتبات الجنود وثمن الطعام والمياه وحتى تعويض الجنود الامريكيين عن الإصابات.

اما صفقات الاسلحة الخليجية مع امريكا والدول الغربية فهي اكبر من ان يستوعبها العقل. وامريكا تستغل المخاوف العربية من ايران في استنزاف اموال هذه الدول وتشغيل مصانعها وبيع منتجاتها. والصفقة التي اعلن عنها في اواخر 2010 بين السعودية والولايات المتحدة لشراء طائرات بمبلغ 60 مليار دولار اضافة الى تحديث اسلحة في مجال البحرية والدفاع الصاروخي تصل الى نحو 30 مليار اخرى، توصف بانها من اكبر الصفقات الدفاعية في التاريخ. ويأتي ذلك بالطبع بعد صفقة اليمامة مع بريطانيا والتي احاطت بها الكثير من الفضائح. ولعلنا شهدنا مؤخرا المناورات والمحاولات التي قامت بها فرنسا لبيع طائرات رافال للامارات في صفقة كان يمكن ان تمثل فتحا كبيرا للطائرة الفرنسية في الاسواق العالمية لولا انها تعثرت. وهذه الصفقات ربما كانت ضرورية لتشغيل المصانع الغربية اكثر من ضرورتها للدفاع عن مشترييها.

المهم ان اموال العرب بدلا من ان تنفق على الشعوب فهي تنفق لحماية النظم البائسة وتقدم كرشاوى للدول الغربية تحت قناع صفقات اسلحة لا تنفع ولا تشفع.

ولكن بما ان الشعب المصري هو شعب طيب فقد عوضه الله عن مشروع مارشال العربي الذي اجهضته امريكا والدول العربية الحليفة لها بمشروع الفيلد مارشال حسين طنطاوي.

وقد اصدر الفيلد مارشال الذي يرأس المجلس العسكري الموقر لدينا، تمشيا مع حرصه الشديد على مصالح الشعب المصري وانفاذا لمطالب الثورة الميمونة بتحقيق العدالة الاجتماعية، مرسوما بقانون 4 لسنة 2012 بتعديل احكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار رقم 8 لسنة 1997 في 3 يناير الماضي.

وفي الوقت الذي يسعى فيه المصريون الى التخلص من اسر المعونة الامريكية التي تبلغ قيمتها ملياري دولار أي 12 مليار جنيه مصري فقط لاغير، يقول الخبراء ان القانون الجديد الذي صدر بطريقة مريبة يهدر اكثر من 800 مليار جنيه، ليكون تتويجا لخدمات المجلس العسكري التي من بها على المحروسة منذ توليه السلطة بعد الثورة.

ويخرج علينا في نفس التوقيت انصار حزب "العزة والكرامة" ليطالبونا باننا يجب ان نعصر انفسنا ونضغط انفاقنا دفاعا عن كرامتنا وعزتنا المتمثلة في دفع الاثني عشر مليار جنيه، في الوقت الذي نلقي فيه الى لصوص النظام السابق بمبالغ طائلة لا لشيء الا لانهم من طينة اخرى غير طينتنا، وهو ما يمنحهم الحق في نهب الاموال ويرتب علينا نخن الضحايا التبرع لجمعها دفاعا عن كرامة الوطن وعزته.

ومن الواضح ان القانون يهدف الى حماية الفساد في العهد البائد سواء كان المتورطون فيه من رجال الحكم او رجال الاعمال. والسؤال هنا ما هو المبرر الاقتصادي (ناهيك عن المبرر الاخلاقي والانساني) لاصدار مثل هذا القانون؟. اذا كان من حق المواطنين في الخليج ان يسألوا عن مبرر صفقات الاسلحة الضخمة التي سيعلوها التراب في مخازنهم، فربما كان من حق مواطن مثلي ان يسأل الفيلد مارشال ورفاقه عن سبب اصدار هذا القانون.

التوقيت المريب والملابسات والظروف والغموض والسرية التي احاطت باصدار هذا المرسوم او القانون تقول ان هناك حالة من الاستحمار للشعب المصري وكان اولي به ان يسمى "تعديل قانون ضمانات وحوافز الاستحمار" لانه بالفعل استحمار واستغفال للشعب. بدلا من ان نسعى الى استرداد الاموال المنهوبة فاذا بنا نقنن الفساد ونحمي اللصوص ونؤمنهم ونحييهم على انهم تفضلوا وتواضعوا ونهبونا.

لقد استردت ليبيا نحو 90 مليار دولار من اموالها المنهوبة ووزعت الفي دينار على كل اسرة في الذكرى الاولى للثورة. ولكن ماذا استردت مصر من اموالنا المنهوبة وماذا وزعت علينا في عيد الثورة؟ كل الدلائل تقول انهم لم يستردوا شيئا لانهم اساسا ليس لديهم رغبة في استرداد أي شيء، وحتى كوبونات الجوائز التي قالوا انهم سيلقونها على المواطنين وإقامة عروض عسكرية جوية وبحرية لم نر منها شيئا. كنا نتوقع على الاقل ان يوزع المجلس العسكري اقلاما (الاربعة منها بجنيه) بمناسبة الثورة لكي يبدي اهتمامه بها او شعوره بان هناك ثورة حقيقية، ولكن المجلس لم يستطع ان يخفي كراهيته للثورة وكل ماله علاقة بها واراد ان يذكرنا انه ينتمي اكثر الى النظام القديم فاصدر هذا القانون الجميل استباقا للاحتفال بها، ليكون بلسما وعزاء لاعدائها.



ليست هناك تعليقات: