الصفحات

الثلاثاء، فبراير 07، 2012








الهمج لا يصنعون تاريخا ولا حضارة


 
بعيدا عن السياسة وبعيدا عن الحسابات القذرة لكل طرف وموقفه من مذبحة بور سعيد لا اعتقد ان احدا فكر في اسر اولئك الشبان المساكين ولا احد وضع نفسه موضعهم ولا شعر بمدى الامهم لفقد احبائهم، بل كان هم الجميع هو ان يخرجوا من الازمة دون ان تمس مكاسبهم السياسية المباشرة واوضاعهم. وكانت المؤازرة والمناصرة والمساندة والتوافق هي المهيمنة بين اركان السلطة في المحنة، اما لخسائر الاخلاقية والانسانية وصورة كل الاطراف امام الشعب فلم تكن ذي بال بل ربما كانت خارج الحساب تماما.

شعرت ان كل الذين تحدثوا عن الكارثة كانوا يتحدثون عن كارثة العبارة الغارقة او القطار المحترق. نفس الكلمات ونفس التعبيرات ونفس الانفعالات وان اختلف الزمان والاشخاص. وخرجت علينا جوقة السنيدة التي تقرأ من نصوص محفوظة بعد كل كارثة لتردد ان هذه ليست مصر ولا اخلاق مصر ولا هؤلاء هم شعب مصر ولا شباب مصر. ومصر ذات الحضارة التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ الى سبعة الاف سنة لا يمكن ان يحدث بها هذا. ولا تدرى حقيقة ما سبب هذا الانكار لحادث ملء السمع والبصر..هل هو الاستنكار والرفض ام انها ميوعة من قبيل لزوم ما لا يلزم. وعلى حد علمي لم يضبط في النادي أي ايراني او باكستاني او اسرائيلي لنقول انه هو الذي دبر الكارثة.


هذا بالطبع كلام ناس للاسف من كبار الحشاشين. وحكاية السبعة الاف سنة حضارة خرج به علينا الراحل السادات رحمه الله وكان حشاشا كبيرا. اما مبارك فلانه كان مجردا حتى من القدرة على التخيل والحلم ولا يتعامل مع العالم الا بحواسه المباشرة، فقد علمنا على مدى 30 عاما ان العالم ليس فيه ما يدهش ومهما كان عدد الضحايا يتعين مواراتهم الثرى ونسيانهم والمضي في الحياة. وهو المبدأ الذي ما زال يحكم حياتنا حتى اليوم، والذي تبدى واضحا في رد فعل المؤسسات على الكارثة.

أما آن لنا ان نتوقف عن ترديد هذه الاكليشيهات السخيفة عن الحضارة وفعل الثقافات الوافدة. فهل رأينا في دولة في العالم اناس بهذا العدد يذبحون في مباراة لكرة القدم. هؤلاء المجرمون لابد انهم ينتمون الى شعب من السفاحين والسفلة والقتلة, وسواء كان هذا القتل مأجورا كما يقال من كلاب طرة وحلفائهم او جاء تلقائيا فهو لا يمكن ان يصدر من بشر اسوياء يعيشون في كنف مجتمع سوى بل انهم معاتيه ونتاج مجتمع من المعوقين ذهنيا وذوي العاهات.

بعد معاهدة السلام التي ابرمتها مصر منفردة مع اسرائيل بدون مشاركة عربية وبعد قطع العلاقات مع مصر، حمل السادات المصريين الى ماضيهم الفرعوني محاولا سلخهم عن محيطهم العربي وبناء هوية مصرية جديدة يتقلص فيها المكون العربي الى أدنى حد، ومن هنا كانت فرية السبعة الاف عام حضارة التي ما زال البعض يتغنى بها الى يومنا.

غير ان احداثا مثل بور سعيد تقول انهم في الواقع كانوا سبعة الاف سنة من الهمجية والوحشية والبهيمية. ما معنى ان يكون ابناء الفراعنة لديهم هذا النزوع الغريب للعنف الذي تأنف منه الحيوانات، لان الحيوانات المفترسة حتى لا تقتل طرائدها الا لغاية. أما هذا العنف المجاني العجيب والغريب فلا يثير لدى الا صور افعال جيش الرب للمقاومة في اوغندا عندما يحل بقرية فيجدع انوف السكان واذانهم ويبتر اطرافهم حتى الاطفال منهم.

كيف يمكن لشخص سواء كان مأجورا من عدمه ان يقتل بدم بارد شخص او اشخاصا لا يعرفهم. وكيف يمكن لشخص ان يرسل بمأجورين ليقتلوا اشخاصا لا يعرفهم. هذه امور لا تحدث في مجتمع يدين بأي دين او يحترم أي حضارة.

مصر طوال تاريخها كانت بحاجة على الدوام لعنصرين هامين، وبدونهما تضطرب الحياة أيما اضطراب: فيضان النيل وحكومة مركزية قوية. والفترات التي تعرضت فيها البلاد لاضطراب أي من هذين العنصرين، كانت هي الفترات الاسوأ في تاريخ البلاد، فنقص مياه النيل كان يؤدي الى المجاعات اما عدم وجود حكومة مركزية قوية او سيطرة حالة الاضطراب او الضعف علي القبضة الحاكمة فكانت على الدوام يتبعها الفوضي وهو ما نطلق عليه هذه الايام الانفلات الامني. وكان البلطجية على عهد الفراعنة اكثر جرأة من احفادهم في ايامنا هذه فكانوا ينهبون حتى المعابد والمقابر ناهيك عن مخازن الغلال التي كانت بمثابة بنوك تلك الايام.

على المصريين ان يتواروا خجلا من انفسهم وينظروا في المرآة ليتبينوا السفاحين والقتلة الذين يتخفون خلف ملامحهم. وبدلا من الحديث عن الحضارة وامتداداتها عليهم ان يفكروا بانكسار في الحالة التي وصلوا اليها حيث يمكن استئجار شخص بعدة مئات من الجنيهات ليودي بحياة شخص لا يعرفه. صحيح ان مثل هذه الاشياء موجودة في كل المجتمعات ولكن مبعث خطورتها في مصر انها وصلت الى حد الظاهرة المتكررة. على المصريين ان يفكروا ان لديهم نسبة من اكبر نسب الامية في العالم، وان لديهم صور بشعة اخرى من الامية تتجاوز بكثير معرفة القراءة والكتابة. المصريون ببساطة لا يحسنون شيئا على الاطلاق، حتى انهم لا يعرفون كيف يصوتون في الانتخابات.


لقد سعدت ايما سعادة عندما طمأننا المشير طنطاوي الذي سيدخل كتب التاريخ وهو يحمل فوق كاهله هو ومجلسه العسكري عبء هذه الدماء الطاهرة، ان البلد لن تسقط من جراء حادث كهذا. ولا ادرى حقيقة هل كان يقصد سيادته اننا لا يجب ان نفزع اذا ما واجهتنا في المستقبل احداث مماثلة او حتى اسوأ. غير اننا نريد ايضا ان يطمئن سيادته علي أي حال اننا ليس في نيتنا مهما حدث، ان ننظم مليونيات لمطالبة العسكر بالبقاء في السلطة. أما برلمان الكتاتني فقد فشل فشلا ذريعا في اول اختبار حقيقي له وعلينا ان نتحمل بقية ايامه تحت القبة على مضض الى ان يرحل.

الفائز الوحيد في اللعبة هو مبارك ونظامه الذي ينطبق عليه المثل "من جد وجد ومن ذرع حصد". فقد ربي الرجل اجيالا من البلطجية على مدى ثلاثة عقود، ما زالت تعلن عن وجوده القوي على الساحة. ومن يدري فربما بعد ان يخلد الرجل الى الراحة والدعة في مقبرته يظل هؤلاء البلطجية هم مأثرته وبصمته الوحيدة في تاريخنا الطويل الذي يمتد الى سبعة الاف سنة ونيف وثلاثين سنة.

ليست هناك تعليقات: