الصفحات

السبت، فبراير 18، 2012






صندوق الفقر والندامة

المصريون عندما ينفعلون يخرجون باشياء غريبة لا تلبث مع بعض التفكير ان تتبدى لهم على حقيقتها..سخيفة ورثة ومهترئة. ولدينا في اللهجة الدارجة المصرية تعبيرات كثيرة تعبر عن هذه الحالة مثل "فلان عرض المسائل شوية" او "كبر الدور" او "داخل فاتح صدره".

 وما يقال الان عن ضرورة الاستغناء عن المعونة الامريكية هي من هذا القبيل، فهو مجرد كلام في كلام لان الكلام في مصر لا احد يحاسب عليه سواء كان لصحيفة او لمسئول او مواطن عادي، فهو في النهاية نوع من اشاعة الامال الكاذبة او التنفيس عن الكبت.

 وعندما هدد الامريكيون بوقف المعونة الامريكية لمصر بسبب الخلاف حول تمويل جمعيات المجتمع المدني التي قال المصريون انها تهدف الى تخريب مصر، انفعل المصريون وغضبوا غضبة ملكية ثم ركلوا امريكا ومعونتها في لحظات.

اولا انا مقتنع بان الخلاف بين مصر وامريكا لن يدوم ولن يستمر فهما مثل أي زوجين يختلفان أثناء النهار علنا ولكنهما يتصافيان في الفراش ليلا. وكل ما يحدث من شد وجذب ليس سوى نوع من تكبير الدور او فتحة الصدر ولن تلبث ان تنتهي وتعود المياه الى مجاريها. وتخرج كلمتان من هذا الجانب حول الشراكة الاستراتيجية وكلمتان من الجانب الاخر حول دور مصر المحوري في المنطقة وتنتهي المسألة، وكما يقول المصريون نصير "سمنا على عسل" مرة اخرى.

ومن ادرانا ان الخلاف الحالي ليس خلفه ملفات اخرى تماما غير تلك المعلنة امامنا. وقد يتم تسويتها هي الاخرى دون ان نعرف. لا هذا الطرف ولا ذاك سيقولون لنا ما هي. فنحن مثلا لم نعلم ان فيديو البنت المسحولة في ميدان التحرير تمت "فبركته" الا من كارتر عندما ابلغه طنطاوي الذي لم يكترث بابلاغنا بالامر.

ما اريد ان اقوله هو امر يتعلق حرفيا "بالشحاتة" على مصر. وهذه الطريقة تذكرني بما يقوم به بعض المتسولين المحترفين من استئجار طفل صغير من جيرانهم ليستعينوا به في التسول ثم يكون له في نهاية اليوم نصيب معلوم من الغلة. وقد تكررت عملية "الشحاتة" على مصر كثيرا تحت مسمى دعم الاقتصاد. واخيرا ظهرت فكرة انشاء صندوق "العزة والكرامة" لتعويض المعونة الامريكية.

وليس هناك ما يمنع اطلاقا ان نطالب الشعب المصري بالتبرع لاقامة جامعات او انشاء مستشفيات او خلافه من المؤسسات الخدمية ولكن يجب ان يكون ذلك اخر خيار امامنا. فليس من المنطقي ولا من العقلاني ان اترك شخصا ينهب مليار جنيه مثلا تحت أي مسمى ثم اتوجه الى الشعب للتبرع بمبلغ مماثل فهذه ببساطة حماقة غير مقبولة. ومن الحمق ايضا ان نرسل ببعثات "طرق الابواب" كما نسمي التسول من الخارج لتأتي لنا ببضعة ملايين من الدولارات يسرق ضعفها أي لص متواضع لدينا.

وعندما اتوجه الى الشعب لاجمع منه تبرعات يجب ان اكون انا قد قمت بكل ما من شأنه ان يجعل ذلك هو الخيار الوحيد امامي بحيث لايوجه الى احد اللوم والانتقاد. كلنا نتمنى ان نرى مصر في افضل حال وان نراها من اقوي الدول اقتصادا، ولكن ليس عن طريق تبرعات اجمعها من شعب مسروق بالاساس لانني سأكون شخص عديم البصر والبصيرة. وبدلا من ان يتوجه شيوخنا الاجلاء الى الشعب المنكود بالتبرع اولى بهم ان يخاطبوا السلطات لمتابعة اموالنا المنهوبة سواء في الداخل والخارج واعتقد ان الحديث عن حرمة المال العام وضرورة استرداده اولى من الحديث عن العزة واخواتها.

مبلغ المعونة الامريكية كلها وهو نحو ملياري دولار ليس بالمبلغ الضخم ولا الهائل بل انه يمثل جزءا ضئيلا من ثروات اشخاص كثيرين في مصر جمعوها بطرق مشبوهة ومريبة، وهو نفس السبب الذي يحول بينهم وبين التبرع بقرش منها. ولو بدأنا تطبيق القانون بطريقة محترمة لاستطعنا ان نجمع اضعاف هذا المبلغ. ان مبلغ الملياري دولا يمكن جمعه بسهولة من قطعة ارض استولي عليها احد اللصوص الكبار. وهناك كثيرون في مصر اشتروا (او لنقل سرقوا) مساحات شاسعة من الاراضي بملاليم وباعوها بمليارات بعد ايام معدودة.

 وقف المعونة الامريكية لن يجعلنا نتضور جوعا والقول عن اعتياد وادمان المعونة هو قول سخيف، فالمبلغ ليس من الضخامة بحيث يستحيل تعويضه. واذا كانت كاترين اشتون المفوضة العليا للاتحاد الاوروبي ذكرت ان مصر سرق منها خمسة تريليونات دولار خلال الخمسة عشر عاما الاخيرة فلاشك اننا نستطيع ان نسترد جزءا يسيرا من المبلغ المسروق وهو يفوق ربما المعونة التي دفعتها امريكا منذ اوائل الثمانينيات حتى يومنا هذا بكثير.

المعونة بالاساس هي اشبه بمسمار جحا او ستارة لتغطية التبعية المصرية لامريكا وتبرير هذه العلاقة غير المتكافئة وغير المتوازنة. هل تذكرون عندما شتم ريجان مبارك واتهمه بانه كاذب. لقد طالب بعض المصريين المتحمسين انذاك ان تعتذر امريكا لمصر فرد الصحفيون الامريكيون ساخرين : كيف نعتذر لدولة ندفع لها معونة؟. وامريكا لا تدفع هذه المعونة لوجه الله والتاريخ او حبا في الشعب المصري بل لانها تستفيد من دفعها عشرة اضعافها.

ومن المطلوب منه الان ان يدفع هذه المبالغ؟. الطبقة الوسطي التي يمكن ان تحرك المجتمع وتنهض به قضي عليها مبارك وجعلها تهبط الى ما فوق خط الفقر بقليل حتى لتكاد تجلس عليه مع حشود غفيرة تتحرك اسفله. رجال الاعمال في مصر اغلبهم من صناعة مبارك وولده وهم لا يتبرعون سوى لمعارك من نوعية موقعة الجمل او استاد بورسعيد ومن اجل نشر الفوضى وغيرها من الاعمال المسمومة.

أذن فالمتبرع الرئيسي سيكون هم ابناء الشعب الكادحين الذين يزيد تعدادهم على 80 في المئة من السكان لا يستحوذون سوى على اقل من 40 في المئة من اقتصاد البلاد، بعد ان نهبت اموالهم ولا يجدون ما يقيم اودهم او يجدونه بصعوبة. ولم نسمع من قبل عن دولة بنت اقتصادها بالتبرعات حتى لو جمعتها من شتى اقطار الارض.

على مصر اولا ان تجد في استرداد الاموال المنهوبة منها في الخارج والداخل وهي تكفي ليس لتغطية قيمة المعونة الامريكية فحسب بل ايضا لسداد ديون مصر وتحقيق انتعاش اقتصادي كبير. وساعتها على الاقل سيكون لدينا الجرأة لطلب التبرعات من الشعب واستثارة احساسه بالعزة والكرامة.

ليست هناك تعليقات: