|
سايجون 1975 |
في
منتصف السبعينيات نشر كتاب صغير في القاهرة عن حرب فيتنام وكان يمكن ان تجد منه
نسخا على سور الازبكية بعد ذلك حتى باكثر من عقد. كان الكتاب الذي نشرته على ما
يبدو احدى دور النشر الاشتراكية في القاهرة يحكي رواية موجزة للحرب الفيتنامية
وعلى الصفحة الاخيرة قبل الغلاف مباشرة صورة لمواطنين امريكيين وهم يصعدون سلم ارتجل
على عجل الى سطح السفارة الامريكية في سايجون حيث ربضت طائرة هليكوبتر لاجلائهم، وذلك
في اعقاب سقوط سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة في قبضة
جيش الشعب الفيتنامي وجبهة التحرير الوطنية لفيتنام الشمالية في 30 ابريل 1975.
ومثل ذلك نهاية حرب فيتنام وهزيمة امريكا النهائية فيها واعادة توحيد البلاد.
تذكرت
هذه الصورة عندما قرأت التصريحات المستفزة للمسؤولين الاسرائيليين على حكم الغاء
اتفاق تصدير الغاز المصري وهي تصريحات تمثل نوعا من البلطجة والسفالة غير
المقبولة. والامر يبدو من قبيل الابتزاز الصريح لمصر بمعنى انه مالم تأخذ اسرائيل
الغاز المصري باسعار بخسة فان ذلك سيجعل اتفاقية السلام المصرية معها مهددة. وصرح
عوزي لاندو وزير الطاقة الاسرائيلي ان الغاء الاتفاق يهدد السلام الهش بين البلدين
موضحا ان اتفاق تصدير الغاز هو حجر الزاوية في اتفاقية السلام المصرية
الاسرائيلية. أي انه بدون غاز مجاني او شبه مجاني لاسرائيل يكون السلام – المرفوض
من قبل كل المصريين باستثناء بعض المنتفعين – في موضع تهديد. ونفس التصريحات كررها
ايضا وزير المالية الاسرائيلي ورئيس
الاركان وكأن السلام مع مصر مرتبط من وجهة النظر الاسرائيلية بالحصول على الغاز.
أي ان مصر يجب ان ترشو اسرائيل بالغاز شبه المجاني لكي تكف يدها عنا وهذا هو
المعني الصريح الذي يمكن ان نفهمه من تصريحات المسؤولين الاسرائيليين.
لقد
كان مبارك النائم الان في المركز الطبي يجامل الاسرائيليين بالغاز المصري الذي كان
يوفر للخزينة الاسرائيلية نحو عشرة مليارات دولار سنويا وفقا لاعترافاتهم في حين
يتضور كثير من المصريين جوعا. وهو تناقض غريب اوقعنا فيه النظام السابق ومن احاطوا
به من الحثالة معدومي الضمير والاخلاق، ان تجد دولة فقيرة مثل مصر تدعم دولة مثل
اسرائيل يفوق متوسط دخل الفرد فيها متوسط دخل الفرد في العديد من دول الاتحاد
الاوروبي. وأمر الغاز المنخفض السعر لا يرتبط فقط باسرائيل بل بأسبانيا ايضا ودول اوروبية
اخرى وهذا معناه ان المواطن المصري الفقير الذي قد يبيت احيانا بدون عشاء ولا مأوى
يتعين عليه بسبب نظام حكم فاسد وعفن ان يدعم اغنياء يعيشون في منازل مكيفة ويركبون
سيارات مكيفة ولا تنقصهم من متع الحياه شيء.
والواقع
ان التهديدات الاسرائيلية لم تظهر فقط بعد اعلان الغاء اتفاق الغاز بل ظهرت منذ
فترة طويلة ومع بداية الربيع العربي في مصر والاطاحة بصديقهم المأفون في القاهرة،
مما يعني بان مواطني مصر والمنطقة العربية يجب ان يتعايشوا مع التهديد الاسرائيلي
المستمر بشن الحرب بسبب وبدون سبب. احيانا من اجل الابتزاز الاقتصادي كما هو حادث
الان واحيانا اخرى من اجل التخويف والارباك كما حدث في اوقات اخرى. فكيف يمكن
الخروج من هذه الحالة؟.
من
الواضح ان اسرائيل تحاول ان تقلد امريكا في استخدام قوتها العسكرية في تحقيق اهداف
وجنى مكاسب لا تستطيع ان تحصل عليها من خلال الدبلوماسية. واصطلح العالم على اطلاق
لفظ السلام الامريكي او Pax Americana على
الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية حيث حافظت الولايات المتحدة بفضل قوتها
على السلام النسبي بين القوى في العالم الغربي. وكان نصف الانتاج الصناعي يخرج
منها كما كانت تحتفظ بنحو 80 في المئة من احتياطيات الذهب العالمية وكانت القوة
النووية الوحيدة في العالم. ولكن مع بدء الحرب في فيتنام حدث تحول خطير في مفهوم
السلام الامريكي واصبح يشار اليها بدلا من ذلك باسم الامبريالية الامريكية. وفي
السبعينيات تخلت الولايات المتحدة عن ربط عملتها باحتياطي الذهب لديها ومن ثم اصبحت
تطبع اوراق بنكنوت بلا عدد وتطرحها في العالم مما يجعلها تعيش في حالة بلطجة مقنعة
على حساب العالم. وعلى الرغم من السلام الذي يظل العالم الغربي وحلفاء الولايات المتحدة
الا انهم خاضوا حروبا في اماكن شتى من العالم منها كوريا وفيتنام ويوغسلافيا
والعراق وافغانستان. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال العالم الذي يحكم
العلاقات فيه وجود قطبين اصبحت البلطجة الامريكية سافرة واصبحت امريكا تخوض حربين
في وقت واحد.
ومشكلة
التعايش مع اسرائيل لن يتسنى حلها الا بحل مشكل الوجود الامريكي في منطقة الشرق
الاوسط. واسرائيل لن تتوقف عن البلطجة وتقبل بسلام عادل وتتصرف كدولة طبيعية وليست
بلطجي خارج عن القانون الا اذا شعرت ان الولايات المتحدة لا يمكن ان توفر لها
الدعم المستمر الذي طالما وفرته لها في فترات طويلة من وجودها. واسرائيل تتصرف
بحرية مطلقة وبخروج معتاد على القانون الدولي مقتنعة بان امريكا لن تحميها فحسب في
مجلس الامن بل انها ايضا موجودة في الجوار الجغرافي لها في صورة عشرات القواعد
العسكرية التي تتركز بصفة اساسية في منطقة الخليج.
والغريب
في الامر ان كل الثورات التي قامت في دول نامية اعتبرت ان العداء لامريكا احدى
مقوماتها الا دول الربيع العربي. وفي مصر اعتقد انه في اليوم الثاني لجمعة الغضب
اضرم الثوار النار في العلم الامريكي امام مبنى التلفزيون مرة واحدة، على الرغم من
دعم امريكا لمبارك طوال ثلاثة عقود ولاخر لحظة، وانقلابها المفاجيء عليه بعد ان
شعرت انه لا مستقبل له في الحكم. وكانت امريكا مستعدة لدعم توريث الحكم في مصر
مثلما دعمته في سوريا، فقد ذهبت الحاجة مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية
اثناء وفاة العم حافظ الاسد الى دمشق لتقديم العزاء ومن هناك ابدت اعجابها الشديد
بالتوريث الهاديء حيث قالت انهم لديهم آلية رائعة جدا لنقل السلطة.
ومن
غير المتوقع اطلاقا ان يشعر المواطن المصري والعربي في هذه البقعة المنكودة من
العالم بانه يحيا حياة طبيعية الا اذا زالت وطأة التهديد الاسرائيلي. ولن تزول هذه
الا اذا شعرت اسرائيل بقوة العرب وضعف
الحماية الامريكية لها الناجمة بدورها عن ضعف امريكا نفسها. ومن الغريب ان العرب
يسهمون في انتعاش الاقتصاد الامريكي بنصيب وافر عن طريق صفقات الاسلحة الضخمة
وكذلك استمرار ربط عملاتهم المحلية بالدولار على الرغم من ان استمرار ذلك يكلف اقتصادياتهم كثيرا ويحمل مواطنيهم
اعباء تضحيات لا جدوى منها يقدمونها رغم انفهم او يقوم بها الحكام نيابة عنهم، وهو
الامر الذي يقول محللون انه ثمين يدفع مقابل الحماية الامريكية للنظم العربية
الغنية في الخليج.
الاهم
والاخطر هو انهاء حالة الاحتشاد العسكري الامريكي في منطقة الخليج حيث القواعد
العسكرية العديدة ومقر الاسطول الخامس. واثناء غزو العراق كان 70 في المئة من
اراضي دولة الكويت منطقة عسكرية يحظر دخولها على المدنيين، أي تم اختزال مساحة
الدولة الى اقل من ستة الاف كيلومتر مربع. وربما يعد الحديث عن خروج الامريكيين من
منطقة الخليج نوع من الحلم بالنسبة لكثير من العرب ومن المؤكد ان ذلك لن يتم في
وجود الانظمة الحالية ولكن المؤكد ايضا ان هذه الانظمة لن تستمر طويلا، وستكون
اولى المطالب للنظم البديلة هي خروج القوات الامريكية من المنطقة. وربما لا تصل
الامور الى ان نرى طائرة هليكوبتر رابضة فوق السفارة كما كانت في سايجون ولكن
الشيء المؤكد هو أن مصير امريكا في الخليج سيكون كمصيرها في فيتنام.