عمر سليمان ومسيرة شعب على درب العبودية
نمت بالامس قرير العين هاديء البال مرتاح الضمير مطمئنا الى مستقبل هذا الوطن ومستقبل الثورة ومستقبل اولادي بعد ان قبل السيد عمر سليمان توسلات وتضرعات وتأوهات الجموع الغفيرة من ابناء شعبنا الصابر الابي التي وصلت بحساب احد الحضور الى 178 فردا (هامش الخطأ من اثنين الى ثلاثة في المئة لان الرجل كان يحصيهم وهم يتحركون) – ووافق على خدمتنا بترشحه للرئاسة. ويجب ان يذكر الفضل في هذا للجبهة الثورية التي نجحت في اقناع الرجل بالقيام بهذه المهمة الصعبة.
غير ان لي عتاب صغير على الجبهة الثورية التي أثمن جهودها واجلها كل الاجلال والاحترام باعتبارها فلتة ثورية في عالم يغص بالرجعية، وهو عتب في صورة تساؤل بسيط : لماذا تركت الرأس ولجأت الى الذنب؟. ألم يكن الاولى ترشيح حسني مبارك؟ ألم يكن الاصوب ان نجمع هذه الجماهير الغفيرة امام المركز الطبي العالمي ونرسل بتوسلاتنا وتضرعاتنا للرجل النائم هناك؟. يقال ان الجبهة الثورية لانها حزب ناشيء وطاهر اليد ولا تقبل تمويلا من احد، سواء من الخارج او الداخل، عجزت عن تدبير اجرة اتوبيسين اثنين لنقل كل اعضائها ومناصريها الى المركز الطبي على طريق القاهرة الاسماعيلية، فقررت ان تلجأ الى منزل عمر سليمان الاقرب. وعلى أي حال فالجبهة لم يجانبها الصواب كثيرا فسليمان هو نسخة من مبارك وان يكن نسخة اشد ضراوة واكثر قسوة. صحيح ان مبارك كان يصدر اوامر التعذيب والسجن وربما القتل بدم بارد، أما سليمان فكان يشرف على التنفيذ الميداني لهذه الاوامر دون ان تاخذه أي رحمة بالضحايا او تخالجه شفقة بشأنهم، وهو ما أكسبه مكانة رفيعة في أعين الامريكيين الذين خدمهم على مدى سنوات طويلة.
وعمر سليمان هو الاخير من بقايا نظام مبارك الذي يعلن ترشحه بعد ان اعلن عمرو موسى مقاصده الكريمة لخدمة الشعب المصري حتى قبل ان يغادر منصبه في الجامعة العربية وبعد ان اعلن عن ذلك احمد شفيق فور فوزه بموافقة المشير وراح يجوب بقاع مصر منددا بصديق الامس الذي جعله رئيسا للوزراء في احلك ظروفه.
وسليمان هو الشخصية العسكرية البارزة الثانية بعد احمد شفيق الذي يعلن ترشحه للمنصب العتيد بعد ان خدم الاثنان في نظام مبارك في احلك ايامه. والرجلان كانا من ابرز رجال مبارك طوال حكمه كما حملا نعش نظامه الى مثواه الاخير. ومجرد ترشحهما لمنصب الرئيس يعني شيئا بسيطا للغاية: اننا شعب لا نفهم ولم نفهم ولن نفهم واننا موضع احتقار الكثير من المرشحين وانهم لا يقيمون لمشاعرنا ولا لآدميتنا أي وزن. انهم ببساطة يتعاملون معنا على اننا شعب من الحمير.
ولا تستطيع ان تلوم المجلس العسكري في شيء لان كل مواطن مصري تنطبق عليه الشروط يمكن ان يرشح نفسه. ولكن يجب – من قبيل نسب الفضل الى اهله - ان نذكر دور المجلس العسكري العظيم في حمل الناس على كراهية الثورة والكفر بها واعتبارها كارثة معوقة لحياتهم التي لم تكن في عهد مبارك اصلا لا هي بالحياة ولا هي بالموت. واكتشف الناس على ايديهم ان هناك ما هو اسوأ كثيرا من الوجود السكوني في عهد مبارك. والمصريون يتطلعون الان الى من ينتشلهم من هذا الجحيم وحبذا لو كان رجلا عسكريا لما عرف عنهم من الحزم والحسم. وهذا هو التوقيت الطيب جدا الذي خرج علينا فيه عمر سليمان ليتنشلنا من الغرق.
واحاط الكثير من الغموض بسليمان كما كثرت التكهنات حول مصيره بعد تنحي مبارك وتوقع البعض ان يقدم للنائب العام بين لحظة واخرى بينما توقع اخرون ان يعين في منصب هام، ويبدو ان المجلس العسكري يتعمد في كثير من الاحيان ان يتركنا نضرب أخماسا في اسداس، وهي سياسة تمثل احدى الركائز الاساسية الموروثة من نظام مبارك. وكان تعمد الغموض من مبارك ينهك خصومه ويجعلهم دوما في حالة من البلبلة والاضطراب. واخطر قضية حيرت المصريين لسنوات عديدة هي قضية خلافة جمال له التي ظلت هما مقيما لشعب بأكمله دون ان يحسمها الرجل الى ان رحل هو ووريثه الى حيث ألقت.
وظل موضوع ترشح سليمان وانسحابه حكاية مسلية منذ الثورة عن طريق صفحات غامضة ومريبة تظهر على الفيسبوك لتروج لاحد ابشع شخصيات النظام البائد ثم تخفت حدتها. ومنذ بدء تقديم اوراق الترشح لانتخابات الرئاسة رشح سلمان نفسه وانسحب نحو اربع او خمس مرات. وهو يرشح نفسه في المساء لينسحب في الصباح مقدما مبررات غريبة لترشحه واكثر غرابة لانسحابه.
وفي 16 مارس نقل عنه احد اعضاء حملته رفضه للترشح وقوله "الخونة والعملاء والمرتزقة سيغتالونني لو أعلنت ترشحى للرئاسة، والأمر ممكن فى حالة وجود ضغط شعبي". وليس معروفا بالطبع من الخونة والعملاء والمرتزقة الذين يقصدهم نائب الرئيس السابق. واذا كان الرجل يتوقع وجود ضغط شعبي يرفض ترشيحه فلماذا استجاب لفريق الكشافة الذي طالبه بترشيح نفسه. اما تعرضه للاغتيال وهو الشخصية الامنية السابقة ونائب رئيس في نظام بوليسي وامني فهو مدعاة للضحك والسخرية.
وعاد بعد ذلك فقال ان سيرشح نفسه بناء على طلب الشعب.
وبعد فترة صغيرة حملت الينا الانباء انه اعلن الا علاقة له بالانتخابات من قريب او بعيد.
ثم عاد وقال انه سيعلن قراره النهائي يوم الاربعاء.
واعلن الرجل قراره بعدم الترشح مما جعل الشعب يذرف الدموع السخية بطول البلاد وعرضها.
ولكن الرجل رق قبله واشفق علينا فتفضل علينا باعلان الترشيح بعد اقل من 48 ساعة او حتى 24 ساعة من اعلانه انه لن يترشح.
هل هذه كلها مناورات من جانبه ام ان هناك عوامل اخرى لعبت دورا في الموضوع؟. الرأي الراجح عندي – وربما تكشف الايام صحة كلامي فيما بعد – هو ان كل الاعلانات التي اطلقها الرجل من قبل بين الاقدام والاحجام كانت بالونات اختبار قصد منها جهة واحدة هي المجلس العسكري. ونلاحظ ان طنطاوي اصبح – سواء شاء او أبى – هو المرشد الروحي للثورة المصرية بحكم الامر الواقع واصبح الحصول على موافقته الصريحة شرطا للترشح من قبل الشخصيات العسكرية، وموافقته الضمنية شرطا للترشح من قبل الفلول والاسلاميين.
ويبدو ان تجاهل المجلس العسكري لسليمان كان مقصودا، فهو ربما لم يحادثهم في الامر مباشرة ولكنه توقع ان يوجهوا له كلمة تشجيع او تحذير، غير انهم لم يفعلوا حتى اللحظة الاخيرة، وبعد ان حسبوا حسبتهم ووجدوا ان وجوده كمرشح افضل من نبذه في العراء وحيدا، سمحوا له مثلما سمحوا للاخوان بترشيح خيرت الشاطر كما ذكرت ابنته خديجة. ومن هنا كانت عودة سليمان الى الساحة التي انسحب منها متعللا (في اخر مرة انسحب فيها) باشياء غريبة منها نقص التمويل. وهو لا يمثل مشكلة بالنسبة له لانه اساسا وجه معروف جدا من نظام مبارك ولا يحتاج دعاية مثل الكثير من المرشحين الاخرين، بل يكفي ان يعلن على الملأ انه رشح نفسه لكي يحدد الناس موقفهم منه بسهولة. واعتقد ان اكثر موقف رسخ في اذهان المصريين لسليمان واكثر اعلان عرفه المصريون بل والعالم كله به هو اعلانه تنحي مبارك عن السلطة، والذي بدا خلاله كما لو كان يحمل كل هموم واحزان العالم. وسيكون هذا الاعلان ماثلا في اذهان الناس وهم يصوتون في انتخابات الرئاسة.
الشيء المؤكد ان سليمان لن يتراجع بعد اليوم عن الترشح ولن ينسحب من الحملة ولكنه سيكرر كثيرا على مسامعنا انه لولا الضغوط الشعبية لفريق الكشافة الذي يقوده صمويل العشاي لكان فضل قضاء وقته مع احفاده. والشعب هو الشماعة التي يعلق عليها الطغاة دوما انحرافاتهم. ومنذ سنوات عندما طالب البعض الدكتور سرور بتحديد فترات الرئاسة بفترتين او ثلاث فترات صاح غاضبا : كيف تريدونني ان احجر على ارادة الشعب..نفترض ان هناك رئيسا يريده الشعب..كيف احجر على ارداته؟. لقد مضى سرور الى غير رجعة ولكن جاء ممدوح شاهين الذي اكتشفنا ان سرور الى جانبه لا يعدو ان يكون طفلا بريئا. واذا جاء سليمان الى السلطة سنكتشف الكثير من الجوانب المشرقة لدى المخلوع حجبتها عنا الغشاوة.
وانا لا ادري حقيقة هل يتوافر لدينا الحد الادنى من الفهم والقدرة على التمييز والادراك كشعب؟ واذا كان الرد بالايجاب فلماذا يرشح شخص مثل عمر سليمان نفسه كرئيس لقيادة شعب قام بثورة ضد نظام كان هو احد ابرز رموزه حتى اللحظة الاخيرة؟. انا اعتقد ان الرجل ينظر الينا وهو والعسكر، وكلهم من صبية مبارك الذين سيلعنهم التاريخ في كل كتاب الى يوم الدين، على اننا مجموعة من الحمقى والمعاتيه والبلهاء. وانت عندما تجد شعبا بهذه الصفة فلاشك انك تكون رئيسا محظوظا للغاية. لقد ظل مبارك يحكمنا على مدى 30 عاما وهو لا يصلح اساسا لرئاسة قرية صغيرة في اقصى صعيد مصر.
ولكن السؤال الاخطر والاهم؟ هل مصر بحاجة الى اراقة المزيد من الدماء الطاهرة الذكية؟. وهل يتوقع العسكر ان يقبل الشعب بشخص مثل سليمان كرئيس؟. وهل حسبوا رد فعل الشارع في اللحظة التي سيعلن فيها فوز شخص مثل سليمان بالرئاسة. اعتقد ان الثمن الذي دفع في عام 2011 سيكون شيئا زهيدا للغاية الى جانب ما قد يتم دفعه بالفعل هذه المرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق