وفعل طول هنا هو فعل امر من التطويل والاطالة وتعبير "طول يارايق" مأخوذ من اللغة اليومية لسيارات الميكروباس والسرفيس التي تجوب شوارع القاهرة طولا وعرضا وتفرض على العاصمة المصرية نمطا غريبا من السلوكيات لا تقره ابدا اخلاقيات ولا شرطة المرور. وعندما يشير راكب على الارض للحافلة لتتوقف يضرب مساعد السائق ومحصلها على بابها في اشارة الى السائق بضرورة التوقف في هذا المكان سواء لالتقاط الراكب الواقف عل الارض او لانزال راكب اخر. وبعد ان يصعد الراكب او ينزل الآخر يقول المحصل للسائق "طول يارايق" أي امض في طريقك وانطلق.
ونحن الان بعد اكثر من عام وثلاثة اشهر على الثورة وبعد ان يأسنا من ان تأتي الثورة بأي جديد سوى المزيد من المتاعب لا يسعنا الا ان نقول للمجلس العسكري طول يارايق. ويبدو ان المجلس العسكري الذي وهب قدرة خارقة – ربما تفوق الحاسة السادسة - في تحسس نبض الشعب وتلمس ارادته وفهم مراميه حتى دون ان يعبر عنها علنا، ادرك ذلك. والا فما هو تفسير قول المشير مؤخرا للقوى السياسية انه لا يمكن اجراء انتخابات رئاسية بدون دستور.
نحن منذ اكثر من شهر نختلف ونأتلف ونشتبك ونتفرق حول تشكيل التأسيسية التي ستكتب الدستور وانسحبت قوى سياسية وغضبت قوى اخرى واحتجت قوى ثالثة ولم نتفق حتى الان بشكل نهائي على الجمعية التي يفترض انها ستكتب الدستور. فما بالك بكتابة الدستور نفسه والجدل والنقاش والوقت الذي ستستغرقه محاولة كل فريق ان يكون له عليه بصمة تبرز وجهة نظره او توجهه. اضف الى ذلك ان هناك اجماع بين القوى العقلانية كلها في المجتمع على ان الدستور لا يمكن سلقه بين عشية وضحاها فهذا ليس وجبة جاهزة ستنتهي منها وتذهب الى حال سبيلك بل انه الدستور الذي سيحكتم اليه في مستقبل هذه الامة وفي كل صغيرة وكبيرة من شؤونها ولا يجب ان يصدر وفق هوى فريق اغلبية او خلافه لان اغلبية اليوم قد تصبح هي اقلية الغد او قد تتلاشى تماما.
ومنذ بداية الثورة تبدو القوى السياسية كلها وكأنها وضعت في مغارة تركض هنا وهناك ولكنها لا تهتدي ابدا الى أي بصيص يقودها الى الباب، باب مستقبل مصر. البعض منها يسعى الى تعظيم مصالحه لاكبر درجة ممكنة انتظارا لسانحة يرى فيها الباب والبعض الاخر يحدق في الظلمة وهو خائف مما قد يأتي به الظلام المدلهم المحيط به. والبعض الثالث يحاول ان يتلمس فجوة او فرجة في الظلام الحالك عساه ينسل منها.
القوة السياسية الوحيدة التي تفعل كل شيء بثبات وهدوء ووفقا لخطة طويلة المدى بحيث ترى الباب وما خلف الباب وما سيتم على بعد اميال بعد الخروج منه هي المجلس العسكري. لقد ترك المجلس العسكري القوى السياسية الاخرى سكرى بانتصار ميدان التحرير وفي غفلة منهم عكف على صياغة اعلان دستوري لا يمكن للابالسة ان تضع مثله، وسارعنا للتصويت عليه دون حتى ان نقرأه او نتوقف عند مواده كثيرا، ونحن شبه مغيبين، وبذك اعطينا للمجلس العسكري الضوء الاخضر لكي يتصرف في مصيرنا ومستقبلنا ومستقبل مصر كيفما يعن له ووفقا لما يتماشى مع مصالحه وتصوراته لطبيعة العلاقات داخل المجتمع ككل.
وكلما ادلهمت الامور علينا ووقعنا في حيص بيص اخذ المجلس العسكري بأيدينا وطمأننا مؤكدا لنا انه يرى ما لانراه وان المستقبل ينبسط امامه مثل مرج اخضر تغرد على اشجاره الطيور وتحوم حول زهوره الفراشات الجميلة، وما علينا الا ان نستمع لنصحه حتى نبلغ هدفنا ونحقق سويا المراد من رب العباد.
ولكن بقي ان نعرف لماذا اوتي المجلس العسكري وحده هذا الالهام الذي لم ينزل على غيره ولا اختص به أي فرد من القوى السياسية الاخرى.
المثل المصري يقول انه اذا عرف السبب بطل العجب. واذا كان المجلس العسكري هو الوحيد القادر على الرؤية في الظروف الحالكة التي تحيط بالثورة المصرية فإنما يعود لتوافر معدات الرؤية الليلية لديه وهي النظارات التي تعمل بالاشعة تحت الحمراء. ومن المعروف طبعا انها عتاد عسكري لا يمكن تداوله خارج المواقع العسكرية. الأهم من ذلك ما يقال من ان الظلمة هي ظلمة مصطنعة ربما اطلقت مثل سحب الدخان من مدرعاته بهدف تضليل قوى أخرى موجودة في الموقع.
وهذا هو السبب في ان المجلس العسكري هو القوة السياسية الوحيدة التي ترسم مستقبل مصر لانه بفضل معداته المتطورة يمكنه ان يرى مالا نراه امامنا، ففي الوقت الذي لا تكاد ترى القوى السياسية الاخرى على بعد امتار او حتى سنتيمترات منها يمكن للمجلس العسكري ان يخترق حجب الظلمة وينفذ ببصيرته ومعداته المتقدمة الى الاف الامتار امامه وهو مطمئن غاية الاطمئنان وهو يأخذ بيد مصر ليقودها في طريق يدرك انه هو الوحيد الذي يفهم تضاريسه وهضابه ووهاده والالغام والشراك والمفاجئات التي تختفي في الاجمة والادغال على طول هذا الطريق. ونحن لا نملك الا ان نعطيه ايدينا ونصغي الى توجيهاته مثل اطفال حل بهم الفزع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق