الصفحات

الأربعاء، أبريل 18، 2012

الإنترنت والسلطة والديكتاتورية



 


اساءة استخدام الشيء يمكن ان يحوله من النفع الى الضرر ومن الفائدة الى الاذى. وبالنسبة لنا في مصر فان ما يشغلنا اولا وقبل كل شيء عندما نكتشف شيئا جديدا ان نبحث في الجوانب التافهة والعابثة والمعوقة فيه ونتبناها على الفور اما الجوانب المفيدة فقد نقف منها موقف المتربص او اللامكترث.

والانترنت احد الامثلة على ذلك. والعالم ربما يشعر بالامتنان للامريكيين لانهم اخترعوا الانترنت وان لم يكن ذلك كافيا لمحو عارهم باعتبار انهم اول من استخدم الاسلحة النووية في حروبهم. وحتى مولد الانترنت لم يسلم من هذا النزوع العدواني فقد ولدت داخل اسوار البنتاجون عندما قام العسكريون الامريكيون باجراء تجربة لتوصيل بعض اجهزة الكومبيوتر ببعضها البعض في المبنى العتيد الذي ينشر القتل والدمار في ارجاء المعمورة.

والانترنت في مصر تستخدم في الغالب في الجانب الترفيهي أي في الالعاب ومشاهدة الافلام ومتابعة اخبار نانسي عجرم وما اليه. وقد تدخل مكتب انترنت فتجد سبعة او ثمانية "انشأوا" ما يسمى بالسيرفر مع بعضهم البعض ويخوضون معارك شرسة بالاسلحة والذخيرة ومعها صيحات الاعجاب او الدهشة او التحذير، بينما انطوى آخر جانبا وهو يفكر في الخطوة الصعبة التالية في لعبة المزرعة السعيدة وايهما يا ترى سيبيع هل الحمار ام البقرة لشراء الجرار؟. وقد تجد اخر وهو مندمج في "شات" مع فتاة لا يعرفها محاولا استمالتها للخروج معه.

واذا كان ثمة استخدام مفيد من جانب قطاع كبير من الجمهور ولاسيما من الشباب للانترنت فهو في رسائل البريد الالكتروني والدخول الى الفيسبوك. ولا يدرك كثيرون مثلا ان الانترنت توفر فرصا لم تتح من قبل اطلاقا للتعليم ولاسيما تعليم اللغات. ويمكن لاي شاب طموح يجيد لغة اجنبية واحدة ان يتعلم ثلاثة او اربعة لغات اخرى عن طريق الانترنت. وهناك كم من البرامج المتاحة لتعليم اللغات لا حصر لها وهي موجودة بالمجان، وفي الغالب برامج معدة بطريقة جيدة وتراعي التدرج في التعليم والمراحل المختلفة سواء العمرية او التعليمية.


هذا عن تعامل الجمهور مع الانترنت اما الحكومة فتتعامل مع الانترنت مثلما تتعامل مع كل ادوات الاتصال باعتبارها مصدر تهديد امني او يمكن ان تكون كذلك، ومن ثم يتعين مراقبتها مراقبة دقيقة. وكانت حكومة مبارك تفرض على كل كافيه نت ان تأخذ رقم بطاقة أي مستخدم لاجهزتها والاحتفاظ بسجل لذلك يمكن التفتيش عليه في أي وقت، وهو ما يعد مخالفة سافرة لحرية استخدام الانترنت. وتعتبر الكثير من منظمات حقوق الانسان في العالم حرية استخدام الانترنت من الحريات الاساسية وواحدة من معايير حرية التعبير في البلاد.

غير ان هناك جانبا اخر للانترنت ربما لا يلمسه سوى من تعامل معه عن كثب وتأمل فيه كثيرا. وقد اطلعت على هذا الجانب مرغما. فانا اعيش في منطقة لا يوجد فيها سوى تليفونات هوائية اما التليفونات العادية فهي موجودة من زمن وليس فيها أي زيادة. وظللت على مدى عامين كاملين ادفع فاتورة هاتف صامت لا يستقبل ولا يرسل، والاغرب انني عندما كنت اطالع الفاتورة اجد الى جانب الرسوم الثابتة شيئا اسمه الخدمة الصوتية مع ان الهاتف اساسا ميت. ولكني تركته وقلت يوما ما ساستفيد به في تركيب خدمة دي اس ال واشتريت الروتر وبدأت ادرس الشركات حولي وتوجهت الى مكتب افضل شركة دلني عليها بعض الاشخاص في المنطقة ورحت اتفاوض معهم. ومضت الامور سلسة بصورة لا يمكن تصورها ولكن كل شيء استحال ظلمة فجأة عندما اعطيتهم رقم الهاتف. فالهاتف الذي لدي والذي عقدت عليه الكثير من الامال هوائي ولايصلح للانترنت. وتوجهت الى السنترال فعرفت انه من المستحيل تغييره لعدم وجود خطوط وانني يمكن ان اطلب ما شئت من الهواتف الهوائية التي سيثبتونها في نفس اليوم. ومن يأسي الشديد توقفت عن سداد فواتير الهاتف حتى رفعوه.  ولم يكن امامي من حل سوى الحصول على وصلة انترنت اما من مكاتب النت كافيه المجاورة او من الجيران، او الحصول على الانترنت من خلال يو س بي ولدي اثنتان منهما لشركتي اتصالات ولا تفوق احداهما الاخرى الا سوءأ.

وبدأت بمكاتب النت ومررت عليها كلها تقريبا حتى الذي يبتعد عنا بعدة مبان وبه روتر بالقرب منا. وكانت كل نت كافيه اسوأ مما قبلها فهناك مثلا رجل ينهي عمله في المكتب في الساعة الثانية صباحا ولكنه يطفيء الروتر قبل ان يتوجه الى منزله خشية حدوث ماس كهربائي او استهلاك العمر الافتراضي للجهاز. شخص آخر يمكن ان ينقطع النت عنك ايام وتتصل به فلا يرد عليك ولكن بمجرد ان يحين موعد دفع الاشتراك تجده فوق رأسك يبتسم لك في بلاهة وكأن كل الامور تمضي على ما يرام. غير انني لا اهتم كثيرا باصحاب النت كافيه فهم في النهاية اصحاب بيزنس يسعون الى اكبر مكسب بأقل تكلفة او بدون تكلفة بالمرة.

المشكلة في الجيران. وبعد ان يئست من كل اصحاب النت كافيه بدأت اتعامل مع الجيران وبمرور الوقت اصبح لدي في المنزل اكوام من اسلاك الانترنت من كافة المسافات تبدأ من 30 مترا حتى مئة، وعدة روترات من كافة الانواع حتى خيل الى انني يوما ما ساضطر الى فتح محل لبيع هذه الاشياء. واصبح بعض الجيران حتى يلجأون الى لاستعارة روتر مني لعدة ايام او تجربته عندما يكون هناك شك في الروتر المستخدم لديهم. كل هذا طبعا شيء عادي جدا فهم جيران مهذبون ويردون ما يأخذونه في النهاية مع الشكر.

ولكن الجانب الذي اردت ان اتحدث عنه هو انك عندما تشترك مع شخص في الانترنت ويكون الروتر في شقته، فان هذا يعطيه سلطة غير محدودة عليك والاخطر من ذلك هو احساسه القوي جدا بهذه السلطة وما يتبعها من سلوكيات مرضية. المصريون من اكثر شعوب العالم حرمانا من السلطة ولذلك يكون احساسهم غريبا بها وتذوقهم لها اغرب عندما تصل اليهم. ان الرجل الجالس على الطرف الاخر او لاقل الرجل الرابض الى جانب الروتر لديه احساس قوي بانه يتحكم فيك وانه يمكنه ان يؤثر في حياتك ويغير حالتك المزاجية دون ان يتحدث اليك ودون ان يواجهك.

وبعض هؤلاء الاشخاص يتعامل مع الانترنت على انها هويس هو الذي يجلس عليه ويتحكم فيه وهو الذي يمكنه ان يرفع قطع الاخشاب منه لتتدفق المياه. ويكتسب الامر بالنسبة له مع الوقت نوع من الاحساس الفعلي بالسلطة. وانه وهو جالس الى جانب الروتر يواتيه احساس بانه يسيطر على جزء من هذا العالم ويخضع اخرين لارادته، وبامكانه ان يسعدهم او يشقيهم بمجرد الضغط على زر صغير جدا في شقته.

وقد تظل ساعات جالسا امام الكمبيوتر على امل ان يرفع قطعة خشب ولو صغيرة من الهويس ليتدفق الماء رقراقا بينما ينظر هو الى الروتر الصامت بمتعة ليزيد لديك حالة التصحر والسخط الضجر. وامعانا في اذلالك فقد يغلق هاتفه بحيث يقطع عليك كل الطرق. انه يصنع من نفسه ديكتاتورا صغيرا ويستمتع بقمعك دون ان يتحمل أي لوم عن فعلته.

هذه حالات غريبة ينفرد بها المصريون ولديهم تفكير غريب في التعامل مع الاجهزة. فاحدهم مثلا يقول لك انه يريد ان يريح الجهاز حتى لا يحترق وتحاول اقناعه عبثا ان هذا الجهاز صمم لكي يعمل 24 ساعة وانه يمكن ان يستمر في العمل لاشهر او سنوات متواصلة طالما لم تنقطع عنه الكهرباء ولكنه لفرط رقته يريد ان يشمل الجماد حتى بعطفه ورحمته.

في احيان اخر يشعرك شريكك بانك تأخذ من الانترنت اكثر مما يجب. فالهويس هو مجرد بوابة للمياه التي يجب ان تغترف منها بقدر لان الاسراف في ذلك قد يؤثر على حصص اخرين من العطشى في انحاء العالم، وقد نصب هو من نفسه حكما في تقسيم سلعة حيوية جدا بين ابناء المعمورة. ووجهة النظر الكونية هذه سببها شيء اخر تماما ليس لانك تقوم بالتحميل من الانترنت - وانا قلما اقوم بتحميل أي شيء من الانترت اللهم الا بعض الكتب التي قد لايزيد حجمها في افضل الاحوال عن 20 او 30 ميجا - ولكن المشكلة انه لا يريد ان تجلس الى الانترنت ساعات اكثر منه. كيف تحصل على حصة اكبر بجلوسك ساعات اطول في حين انه هو صاحب السلطة والمهمين والمتحكم في الهويس، المتصرف في شؤونه. وحاولت ان اعفي بعضهم من ان يدفع أي شيء وان اشترى انا الروتر وادفع الاشتراك كاملا على ان يتركه يعمل طوال الوقت ولكنه كان يرفض ذلك بشدة باسم العدالة.

ولكثرة خلافاتي مع شركائي حول الانترنت والتي تنتهي دائما بالانفصال بعد بداية ودية، اصبحت اجد صعوبة في الحصول احيانا على شخص يتحكم في هويس ويريق على قطرات منه فانا معروف باني الح في ترك الانترنت تعمل طوال الوقت، وهو مايعد بالنسبة لهم اسرافا لا ضرورة له وجورا لا بد مقاومته. واحيانا اجد ان الطرف الاخر الجالس على الهويس يريد ان تضبط مواعيد جلوسك على الانترنت مع مواعيده وان تكيف حياتك كلها وفقا لهواه وهو امر صعب.

لقد اكتشفت ان وجود روتر في شقتك يعطيك سلطة قوية على الكثير من جيرانك خاصة اذا كنت تسكن منطقة متخلفة من مناطق القاهرة كتلك التي أعيش فيها.

البعض في المنطقة كانوا يتركون شبكاتهم الهوائية مفتوحة لبعض الوقت وكان هذا شيئا طيبا للغاية ولكن مع بروز مشكلة الاستخدام العادل اصبح من الصعب ان يفعلوا ذلك، وليس من المنطق ان تجعل شخصا اخر لا يعرفك ولا تعرفه يتحمل ميزانية من اجلك. وتجد ان هناك حساسية خاصة لدى بعض مستخدمي الانترنت الهوائية فبمجرد ان تقترب من شبكته يدافع عنها باستماتة حتى لو اضطر الى اغلاق الجهاز تماما والذهاب للنوم.

وانا انصح كل شخص في مصر حرم من أي سلطة ويريد ان يشعر بمتعتها ولا يجد أي سبيل اليها، ان يشترى روتر وانترنت سريع ويمارس سلطته على الجيران. انه سيشعر انه زعيم في منطقته يدين له اتباعه بالولاء الشديد ويجلسون بالساعات امام اجهزتهم يتطلعون الى اللحظة التي يهل سعادته عليهم فيها بطلعته البهية. 


ليست هناك تعليقات: