هذان النصان المترجمان عن الانجليزية للشاعر الايرلندي شيماس هيني نشرا بجريدة الحياة اللندنية بعد ايام من فوزه بجائزة نوبل في الادب في عام 1995.
|
هيني |
كتب
شيماس هينى العديد من المقالات التى نشرها بعدة صحف بريطانية وايرلندية كما القى
عددا من المحاضرات، وبعض هذه الكتابات يدور حول الشعر والادب والحياة ويكشف عن
قدرة بارعة عن التنظير الادبى خاصة فيما يتعلق بالشعرالايرلندى والانجليزى، والبعض
الآخر يدور حول طفولته وحياته. وقد جمعت بعض هذه المقالات والمحاضرات فى كتاب Preoccupations :
Selected Prose, 1968 - 1978
الذى صدر فى عام 1980 عن دار نشر Faber & Faber. والنص الاول "اومفالوس" هو أول مقالة من ثلاث تحمل
عنوان "موسبوم" وقد نشرت بأماكن مختلفة قبل ان يجمعها الكتاب. وقد قرئت
"اومفالوس" فى راديو هيئة الاذاعة البريطانية فى عام 1978. أما النص
الثانى فهو تعليق هينى على كتاب "قصائد مختارة" الذى نشر فى عام 1973 عن
الشاعر الروسى ماندلستام اوسيب. وقد نشر النص بصحيفة "هايبرنيا" الايرلندية عام 1974.
اومفالوس
اود
ان ابدأ بالكلمة اليونانية اومفالوس omphalos التى تعنى السرة ومن ثم فهى الصخرة التى تحدد منتصف العالم،
وأكررها اومفالوس اومفالوس اومفالوس، حتى تصبح موسيقاها الكليلة والمتدرجة فى
انخفاضها هى موسيقى شخص ما يضخ
المياة من المضخة خارج بابنا الخلفى. انها
مقاطعة ديرى فى بداية الاربعينيات وقاذفات القنابل الامريكية تأن فى اتجاه المطار
الحربى فى تومبريدج والجنود الامريكيون يجرون مناورة فى الحقول على طول الطريق،
ولكن كل هذا الحدث التاريخى الكبير لايزعج ايقاعات الرحبة. فهناك تقف المضخة،
تمثال نحيف من الحديد لها خطم وقبعة وتكسوها يد جارفة، مدهونة باللون الاخضر
الثقيل، ومقامة على وطيدة من الخرسانة، تحدد منتصف عالم آخر. تسحب منها المياة
خمسة عائلات والنساء تأتى وتذهب؛ تأتى تصلصل بين الدلاء الفارغة المطلية بالميناء
وتمضى بهدوء، مثقلة بالمياة الصامتة. وتئوب اليها الخيول فى أمسيات الربيع الأولى
المطولة وفى جرعة واحدة تفرغ دلوا ثم الثانى والرجل يضخ ويضخ والمكبس يرتفع وينخفض
اومفالوس اومفالوس اومفالوس.
لا
ادرى كم كان عمرى عندما ضعت فى خطوط البازلياء فى حقل خلف المنزل، ولكنه حادث يشبه
الحلم بالنسبة لى وقد سمعت عنه مرارا لدرجة انه ربما كان مجرد خيال. ولكنى الى
يومنا هذا تخيلته طويلا ومرارا حتى اننى
اصبحت اعرف كم كان يشبه: نسيج أخضر، غشاء من الضوء المعروق، وخليط من القضبان
والقرنات، القصلات والحوالق، مفعمة بالرائحة الملطفة للارض والاوراق، وجار تضيئه
الشمس. وانا جالس كما لوكنت استيقظت لتوى من نوم شتوى ورويدا وريدا اصبحت اعى
اصوات تقترب منى، وتنادى اسمى، وبدون سبب ما، على الاطلاق، اجهشت بالبكاء.
كل
الاطفال يتوقون الى ان يربضوا فى اوكارهم السرية وكنت احب تشعيبة شجرة زان على رأس
جادتنا، والاجمة الكثيفة لسياج البقس أمام المنزل، وكومة القش الناعمة المتهاوية
فى الركن الخلفى لزريبة الابقار. ولكنى كنت اقضى الوقت على وجه الخصوص فى حلق شجرة
صفصاف عجوز فى طرف حوش المزرعة. كانت شجرة مجوفة ذات جذور ممتدة ومتعجرة ولحاء
ناعم متهالك وتجويف لبى. كان فمها مثل فتحة ضخمة وصلبة فى طوق حصان وعندما تحشر
نفسك فيها تكون فى قلب حياة مختلفة تنظر فى الخارج الى الرحبة المألوفة كما لوكانت
تختفى خلف ستار من الغرابة. وفوق رأسك اينعت الشجرة الحية وتنفست وانت تضع كتفك
على الجذع المهتز قليلا، واذا وضعت جبهتك فى اللب الخشن تشعر بقمة شجرة الصفصاف
اللدن والهامس تتحرك فى السماء أعلاك. وفى ذلك الشق المحكم تشعر بأحتضان الضوء
والاغصان وتكون اطلسا صغيرا تحملها جميعا على كتفك.
وكبر
العالم وازدادت موسبوم* Mossbawm،
المكان الاول، اتساعا، فكان هناك ماأسميناه ساندى لوننج، وهى ممشاة بين الاسيجة
القديمة تقود من الطريق، اولا بين الحقول ثم خلال سبخة صغيرة، الى حوش مزرعة
بعيدة. كان هناك عالم حريرى، فواح بشذى الاريج ولمسافة بضع مئات من الياردات تكون
فى أمان كاف. وكان جانبا الممر حافتين من الارض متوجتين بالرتم والسرخس، يطرزهما
الطحلب وأزهار آذان الدب. وخلف الرتم، فى
الحشائش الوافرة كانت المواشى تقضم بأطمئنان. ومن آن لآخر كانت الارانب تكسر هدوء
السطح وتنطلق من أمامك فى فورة من الرمال الجافة. كانت هناك طيور الصعو والحسون
ولكن رويدا رويدا كانت هذه الحقول المزدهرة والمحددة تتراجع امام الارض السبخة
الوعرة، وتقف اشجار البتولا حتى قصبات سيقانها الشاحبة فى المستنقعات، ويسمك
السرخس اعلاك. ويجعلك صوت جر القدمين فى ورقات الشجر القديمة عصبيا وتتحدى نفسك
دائما فى العبور بجحرعناق الارض وهو جرح من السخساخ فى حفرة تغشاها النباتات
الكثيفة حيث دلف الحيوان العجوز الى الارض. وحول حفرة عناق الارض، يربض حقل من
القوى الخطيرة. كانت هذه مملكة العفاريت وقد سمعنا عن رجل سرى يجوب حواف السبخة
هنا، وتحدثنا عن الغول الذى يسقسق فى الطحلب والآخر الذى يأخذ الناس ويحتفظ بهم،
وهى مخلوقات لم يصنفها اى عالم من علماء الحياة الطبيعية، ولكنها رغم ذلك حقيقية.
وماهو الغول الذى يسقسق فى الطحلب، على اى حال، ان لم يكن الصوت الناعم والمؤذى
الذى تولده الكلمة نفسها، صفارة من الحروف المهموسة تستدرجك الى الخروج الى بحيرات
السبخة المغطاة بالحشائش البريئة، والرمال
السواخة والمستنقعات؟. كانت كل هذه الاشياء هناك تنتشر على مئزر من الارض مكسو
بالبتولا وتمتد نحو شواطىء لو بيج.
كانت
هذه هى ارض الطحلب المحظورة . يعيش فى قلبها اسرتان ورجل معتزل كراهب يدعى توم تيبنج لم نره ابدا،
ولكن فى الصباح، فى طريقنا الى المدرسة كنا نرى دخانه يرتفع من بين لفيف من
الاشجار وننطق اسمه فيما بيننا حتى صار مرادفا للرجل السرى بفدفدته غير المتوقعة
فى السياج وخطواته التى تخوض فى الحشائش الطويلة.
والى
يومنا هذا فان الزوايا الخضراء والمنداة، والارض القفر التى تغمرها المياة،
والاعماق كثيرة السمار؛ اى مكان به دعوة الارض المائية وخضرة التندرا، حتى عندما
المحه من سيارة أو قطار، فانه يستحوذ على نفسى فى التو بفتنته وجاذبيته العميقة
ويبدو الامر كما لوكنت مخطوبا اليه. واعتقد ان خطبتى قد حدثت ذات مساء صيفى، من
ثلاثين عاما مضت، عندما تجردت من ملابسى ومعى ولد آخر أمام اديم الريف الابيض
وسبحنا فى حفرة بها طحلب وخطونا فوق الطين الذى يشبه الكبد فى سمكه، وحركنا الوحل
الدخانى من القاع وخرجنا ملطخين بالطين والاعشاب ولوننا اسود. ارتدينا ملابسنا
ثانية وقفلنا عائدين الى منازلنا بالملابس مبللة تفوح منها رائحة الارض والبركة الساكنة، ولكننا كنا كمن لقن سر من
الاسرار.
خلف
ارض الطحلب تمتد الآفاق الضيقة للو بيج، وفى منتصف لو بيج تقع جزيرة الكنيسة، برج
يرتفع بين اشجار السرو، وهى بمثابة مكة المحلية. ويقولون ان القديس باتريك قد صام
وصلى هناك منذ الف وخمسمائة عام. كانت المقبرة القديمة مغطاة بنبات لحية التيس
والبقدونس فى ارتفاع الكتف تتدلى فوقها
اشجار السرو الضخمة التى لم يعبث بها احد. وبصورة ما كانت اشجار السرو تأتى
بى الى اجينكورت وكريسى حيث كانت تصنع اقواس رماة النبال الانجليز، كما اعرف، من
السرو ايضا. وكل ما كنت استطيع ان احصل عليه لصناعة اقواسى كانت الاغصان الصغيرة
المستدقة من شجر الدردار او الصفصاف التى انتزعها من سياج على طول مخازن القش والغلال. ورغم ذلك، فان قطع فرع من
ذلك الحوش الصامت فى جزيرة الكنيسة كان انتهاكا بالغ الخيانة لدرجة يصعب تأملها.
واذا
كانت لو بيج تعين احد تخوم الخيال فى ارض البحث عن بيض الطيور وأعشاشها، فان سليف
جالون كان يحدد تخما آخر. وسليف جالون هو جبل صغير يقع فى الاتجاه المقابل، ويأخذ
العين فوق ارض الرعى والارض المحروثة وغابات مايولا البعيدة، هناك فوق جروف هيل
وبارك باك وكاسلداوسون. كان هذا الجانب من الريف هو الجانب الجماعى المأهول بالناس
، ارض اكوام بسيس الحشيش الكبيرة، ومخازن القمح، والاسيجة، والبوابات، وعلب اللبن
فى نهايات الجادات، ولوحات المزايدة على اعمدة البوابات. وتنبح الكلاب من مزرعة
الى مزرعة وتتثاءب الحظائر الى جانب الطريق منتفخة بالعلف. وخلفها وعبرها تمتد
خطوط السكك الحديدية والضوضاء التى تعلق فوقها دائما هى الضوضاء الثقيلة لتحويل
القطارات من خط الى آخر فى محطة كاسلداوسون.
وعندما
يعود ذلك الى يغمرنى احساس بالهواء، بالارتفاع والضوء. الضوء يتراقص منسحبا من
الاماكن الضحلة لنهر مايولا متحولا فى تيارات دائرية على الدوامة شاحبة الاخضرار.
والضوء يتغير على الجبل نفسه الذى يقف كبارومتر للحالات النفسية، الآن ازرق وأغبش،
آن آخر اخضر وقريب. الضوء فوق برج الكنيسة، بعيدا فى ماجريفلت. الضوء يستحيل زبدا
بين نبات الكشتبان على جروف هيل. وارتفاع الهواء أيضا يطن بموسيقى قوية. ويحمل
المساء الصيفى النغمة الحارة والحزينة لغناء ترنيمة من ردهة بين الحقول، وازهار
الزعرور البرى والاطباق الناعمة البيضاء لازهار البيلسان تتدلى كئيبة فى الاسيجة،
أو قرقعة طبول اكاديمية اورانج من اوجريم هيل التى توقظ القلب وتنبهه مثل ارنب
برى.
ولكن
اذا كان هذا هو الريف الجماعى، فانه كان ايضا مملكة الانقسام. مثل لبد قدم الارنب
التى تتلوى عبر المراعى وتشق الانفاق فى النبات الناعم تحت اعواد القمح الآخذة فى
النضج، فان خطوط العداء والانتماء الطائفى كانت تتبع تخوم الارض. وفى اسماء حقوله
وبلداته، وفى خليط اشتقاقاتها الاسكتلندية والايرلندية والانجليزية، كان هذا
الجانب من الريف يفوح برائحة تواريخ ملاكه. بروج ولونج ريجز وبيلز هيل وبراينز
فيلد وذى راوند ميدو وذى ديمين. كان كل اسم هو نوع من الحب يبذل لكل فدان ونطق
الاسماء على هذا النحو يبعد الاماكن ويحولها الى ما أسماه وردزورث ذات مرة مظهر
الذهن، وهى ترسخ عميقة مثل مخطوطة لاتمحى مكتوبة فى الجهاز العصبى.
دائما
ما اتذكر المتعة التى استشعرها من حفر الارض السوداء فى حديقتنا والعثور، على بعد
قدم من السطح، على طبقة شاحبة من الرمل. اتذكر أيضا الرجال يأتون ويغيبون عمود المضخة
فى الارض ويحفرون خلال طبقة الرمل عميقا حتى يصلوا الى الثروات البرونزية للحصى
والتى تأخذ فى التوحل بمياة الربيع. ان هذه المضخة تحدد هبوطا اصيلا الى الارض
والرمل والحصى والمياة؛ انها تمحور الخيال وتمكنه، وتجعل من قاعدته قاعدة
لاومفالوس نفسها. لذا ارى انه من المناسب تماما وجود خرافة قديمة تعزز ذلك التوق
الى الجانب المختفى تحت الارض من الاشياء. انها خرافة مرتبطة بأسم هينى. وفى عصور
الغال، كانت الاسرة مشغولة بالشئون الكنسية فى اسقفية ديرى، ولها بعض انواع الحقوق
فى القيام على موقع رهبانى فى باناجير فى شمال المقاطعة. وهناك قديس اسمه مرداخ
اوهينى مرتبط بالكنيسة القديمة فى باناجير وهناك ايضا اعتقاد ان الرمل المأخوذ من
الارض فى باناجير له خواص مفيدة وحتى سحرية، اذا رفعه من موقعه احد افراد اسرة
هينى. الق رمل رفعه احد افراد اسرة هينى خلف رجل ذاهب الى المحكمة وسوف يكسب
قضيته. القه خلف فريقك وهم ذاهبون الى الملعب وسوف يفوزون بالمباراة.
__________________________
*
اسم المزرعة التى ولد بها الشاعر ومازال ثلاثة من اخوته يعملون بها.
الايمان
والامل والشعر
ماندلستام
اوسيب*
لقد
اصبحت مقولة "الفن من اجل الفن"
Art
for art's sake موضع سخرية بسبب
الفكرة القاصرة عما يمكن ان يحيط به الفن وغالبا مايروج لها على سبيل التشهير أناس
متزمتون يكرهون الفنون على اى حال. الفن له قوة دينية ملزمة بالنسبة للفنان واللغة
هى ايمان الشاعر وايمان اباءه ولكى يمضى فى طريقه ويعمل عمله المناسب فى زمن عنوصى
agnostic، عليه ان يصل بهذا الايمان الى نقطة الصلف والمباهاة بالنصر. وقد
يكون الشعر حقيقة قضية خاسرة مثل اليعقوبية - كما لاحظ شاعر اسكتلندى شاب مؤخرا -
ولكن كل شاعر يجب ان يرفع صوته مثل بيرق المطالب بحقه. وسواء سقط العالم فى ايدى
قوات الامن او المضاربين فى الاسواق المتخمين، فعليه ان ينتظم فى كتيبة كلماته
ويبدأ المقاومة.
|
أوسيب |
كل
هذا يؤكده مثال ماندلستام اوسيب لازاروس الشعر الروسى الحديث، فقد ظهر آخر كتاب
منشور لماندلستام فى عام 1928 وفى عام 1938 وافته المنية اثناء نقله الى احد
معسكرات الاعتقال التابعة لستالين وهو فى السابعة والاربعين من عمره. ومنذ ذلك
الوقت ولمدة عقدين بعد اختفاءه محى اسمه تقريب بصورة كلية من السجلات الادبية
الروسية وصودرت كتبه واصبح "عدما" كما
قبرت القصائد التى كتبها فى العشر سنوات الاخيرة من حياته فى ثلاث كتب
مدرسية للتمارين حملتها زوجته معها خلال سنوات الحرب والاضطهاد كما تحمل ثرى جد من
الاجداد. ولكن اليوم اذا نشرت طبعة من اعماله فى روسيا فسوف تباع فى دقائق. وقد
كان ايمان ماندلستام، على مايبدو، له مايبرره:
الناس تحتاج الشعر الذى سيكون
سرهم
ليجعلهم متيقظين الى الابد
ويغمرهم فى الموجة ذات الشعر
الابيض
لتنفسه.
وقد
خدم ماندلستام الناس بخدمة شعرهم وكتب قصائده الاولى بالاشتراك مع جماعة الاكيميين
Acmeist وهى مجموعة تلتقى افكارها مع افكار الشعراء الخياليين Imagists والذين ظهروا معا تقريبا فى نفس الوقت. وهذه القصائد الاولى متأنقة وشكلية تتنفس هواء
التراث الاوربى كله وتزفر نفسها مرة اخرى الى ذلك الهواء كحرافة روسية. الا ان
المرء يستطيع ان يرى الرباط العضوى بين تلك السطور الباراناسية التى كتبت فى عام
1915:
هذا اليوم يتثاءب مثل وقفة فى
بيت الشعر: هدأة
تبدأ فى الصباح، صعبة،
ومستمرة:
الثيران التى ترعى، والاعياء
الذهبى غير قادر
على استدعاء ثروات نغمة كاملة
واحدة من الغاب.
والثقة
العارية لهذه الابيات التى كتبت فى النفى بعد ذلك بعشرين عاما:
وفى
قصيدة اخرى الى تلك الارض الروسية السوداء
يلتمس منها ان تكون "الحديث الاسود للصمت الذى يعمل". وكما يقول
كلارينس براون فان ماندلستام كان شاعرا سمعيا aural : "سمع ابياته ودونها بعد ان انتزعها من الصمت، مما لم يستطع
فى البداية، ان يسمعه". كل شىء - الارض الروسية والتراث الادبى الاوربى
وارهاب ستالين - كان عليها ان تتماسك فى فعل الصوت الشعرى. "وهكذا فان اوفيد
بحبه المتضاءل/ نسج روما بالثلج فى ابياته" - كان صوت الشعر امرا مطلقا
بالنسبة له.
ويعفو
ماندلستام على الخيار "الييتسى" (نسبة الى وليم بتلر ييتس) بين الكمال
فى الحياة او الكمال فى العمل. فى عام 1971 دخل تاريخ شهداء الادب الروسى عندما
نشرت مذكرات زوجته أمل ضد الأمل فى الغرب.
وتبدأ هذه القصة بالقبض على ماندلستام بسبب قصيدة كتبها ضد ستالين. والقصيدة لم
تنشر ولكن همسات احد الوشاة كانت كافية لتقود الى ثلاث سنوات من النفى فى فورونيج
(1934- 1937) واعتقاله الثانى وموته بالسكتة القلبية بعد ذلك مباشرة.
ولكن
اذا كانت ناداجا ماندلستام هى احدى عرائس الشعر العظيمة والمثابرة فى عصرنا التى
تنفخ الروح فى القصائد وتحملها من الصمت الى العالم، فان كلارينس براون هو احد
افضل المدافعين التى يمكن ان يجده اى شاعر. ويغطى كتابه حياة مانلستام الباكرة وابداعه
حتى نهاية العشرينيات. وهذا العمل هو ثمار الغوص لمدة عشرين عاما على وجه التقريب
فى شعر ماندلستام والبحث فى حياته. وككاتب سيرة وناقد يعمل كلارينس براون بحساسية
مزدوجة : فهو يدخل الى الشخص موضوع بحثه ليفهمه، ويتعاطف معه ويحرك مشاعر القارىء،
ولكنه ايضا يقف فى الخارج ليرى الشاعر فى السياق وليختبر القصائد على محك اذنه
الشعرية للغاية وادراكه العام المصقول. وخطو الكتاب بطىء ولكنه ليس متمهل وطابعه
هو طابع الاهتمام والمشاركة الحميمة. انه هوراشيو بالنسبة لهاملت ماندلستام فى قبضة الموت العاصرة وأفضل تحية يمكن ان
اقدمها للكتاب هى ان اقول انه يرتفع الى قامة اهداءه وهو مهدى الى ناداجا
ماندلستام.
كذلك
فان كلارينس براون يكتب ايضا عن القصائد بفهم ثاقب جميل لتقنياتها ونسيجها اللغوى
وبأمتنان واضح ومتعة لوجودها فى حد ذاته.
لقد لعنت جهلى باللغة الروسية وانا اتابع تعليقاته وكذلك وانا اقرأ ترجمات الشعر
التى اشترك هو ودبليو. س. ميروين فى اخراجها. وتحتوى القصائد المختارة على أعمال
من كل فترات حياة وانتاج ماندلستام ، ابتداء من الشعر الأكيمى لقصيدة الحجر Stone الى القصائد الاخيرة فى المنفى، دموع من النار والثلج. وللقصائد
مسحة من الشعر الامريكى المعاصر ترين عليها ولدى انطباع ان ايقاعات ميروين ترقق
الاصوات المنحوتة للغة الروسية - ومن المحتم على اى حال ان تصبح المقطوعات المقفاة
شعرا حرا عندما تكون موزونة - ولكنها رغم ذلك تحتفظ بثراء وتفرد خيال ماندلستام
وارهاصاته وتقريبا احتفاءه بالقدر والبعث:
أكوام من الرؤس
البشرية تتجول فى المدى.
وانا اتضاءل بينهم
حتى اتلاشى. لا أحد يرانى. ولكن فى الكتب
التى تعيش طويلا،
وفى العاب الأطفال سوف انهض
من بين الموتى لأقول
ان الشمس مشرقة.
اننا
انفسنا نحيا فى اوقات حرجة، حيث ان فكرة الشعر كفن فى خطر من ان يطغى عليها البحث
عن الشعر كرسم بيانى للمواقف السياسية. فبعض النقاد لديهم الحرفية الشديدة كثيرة
التأنق كمسئولين فى وزارة الحقيقة. ان حياة ماندلستام وعمله مثاليين ويستحقان
التحية: اذا كان على الشاعر ان يحول مقاومته الى الهجوم، فعليه ان يذهب الى الموت
وان يكون مستعدا، فى حياته وفى عمله، للعواقب.