نموذج الدولة الضيعة
عرف العالم الدولة المدينة في العصور القديمة مثل بابل وأور في بلاد ما بين النهرين واسبرطة وأثينا في اليونان كما عرفها في العصور الوسطي في ايطاليا مثل فينيسيا وفلورنسا، وما زالت هذه الدول قائمة حتى يومنا هذا ولعل من اشهرها موناكو والفاتيكان. كذلك عرف العالم ايضا الدولة القومية في مطلع القرن التاسع عشر وهي الجماعة البشرية التي تعيش داخل اقليم جغرافي محدد وتوحد بينها اللغة وتربط بينها المصالح المشتركة والقيم الثقافية. أما العرب فتمثل اسهامهم الوحيد في الفكر السياسي المعاصر في ابتداع – او لنقل افضل اعادة انتاج - الدولة الضيعة او الدولة العزبة التي لم يعد لها وجود في القرن الحادي والعشرين الا في بلدانهم والتي تقوم على اساس ان الحاكم هو المالك لكل شيء والشعب لديه لا يرتفعون كثيرا عن مرتبة العبيد فهو المتصرف في شؤونهم وله ان يغدق على خاصته ويمنح ويمنع كما يشاء. ومن نافلة القول ان الدول من هذا النوع قد انقرضت بفعل التطور البشري وعوامل البيئة الا من منطقتنا العربية، وبقاع قليلة جدا اخرى في العالم.
واذا نظرنا الى (الجمهوريات) العربية كيف تتعامل مع شعوبها ناهيك عن الممالك والمشايخ التي يعتبر كل زعيم فيها انه ظل الله على الارض، سندرك ان طول مكوث الحاكم في السلطة يعد مسوغا ومبررا لاكتسابه صفات غير بشرية تتيح له الانفراد بالرأي والقرار والاستئثار بالثروة في طول البلاد وعرضها وسنجد هناك علاقة طردية بين طول مدة الحكم وتشبث الحاكم بالبقاء. فمثلا زين العابدين الذي ظل في السلطة 23 عاما غادر موقعه بعد سلسلة من الخطابات الملحة. ومبارك الذي ظل في السلطة 30 عاما استنفد كل ما في مخزونه من الحيل والالاعيب وبعد استماتة غريبة قبل ان يرحل. أما القذافي الذي ظل بالسلطة لمدة 43 عاما واصبح لطول حكمه فوق مستوى القانون والمساءلة فلم يستطع ان يستوعب حتى الان انه يمكن ان يخرج من الضيعة، ولديه استعداد ان يخرج الشعب الليبي كله من الحياة قبل ان يفعلها.
ويروى ان احد الخلفاء العثمانيين قام بمجرد توليه السلطة بقتل كل اخوته ثم القى بزوجات وجواري ابيه الحوامل احياء في البوسفور حتى لا يخرج له منافس على السلطة. وهذا بالطبع حدث من زمن بعيد وفي سياق تاريخي كان ينظر فيه الى تلك الافعال على انها مألوفة او على الاقل ليست مستنكرة كما هي اليوم. ولكن ما يحدث في بعض الدول العربية لا يبعد عن ذلك كثيرا. والدم الذي يسيل في ليبيا اليوم قد يكون مستغربا لو سال في مكان اخر لا يحكمه العرب الثوريون.
والدولة الضيعة في الغالب تتلاقى فيها مصالح الحاكم مع مصالح الشلة التي تحيط به. والهبش هو ابسط مظاهر السلطة في الدولة الضيعة حيث يعد الشعب مستبعدا عن الثروة التي تخضع لنوع من الاحتكار بين الحاكم ومسانديه. وهناك حكاية طريفة تروى لا ادري ان كانت حقيقة ام انها دعابة قصد منها تعكس الواقع. ويقال احد ان الحكام النفطويين كان يستقبل وزير ماليته كل شهر في زيارة تتجلى اهميتها في الترتيبات والاجراءات التي تسبقها. وكان الرجل يحمل الى الحاكم تقارير عما بيع من النفط في ذلك الشهر. وعندما يجلس الوزير يبتدر الملك بقوله لقد بعنا (مثلا) بمئة جنيه نفط فوضعنا في حسابكم 60 منها ووضعنا في خزينة الدولة 40. وكان الحاكم عندئذ يغضب ويحتج ويقول لوزيره : لا..لا..قسمها بالعدل. ضع خمسين في حسابي والخمسين الاخرى في خزينة الدولة..انا لا اقبل الظلم. وعندئذ ينخرط وزير المالية في القاء القصائد المحفوظة التي يظرب لها الحاكم عن عدله الذي لم يعرف به احد من قيل. وكل شهر تتكرر نفس الحكاية وتتكرر نفس القصائد في ملحمة لا نهاية لها.
ولو نظرنا الى التقارير التي كتبت عن حكام الجمهوريات الثلاث التي نجحت فيها الثورات حتى الان (نجاح الثورة في ليبيا مسألة وقت ليس الا) لدهشنا من حجم الثروات السائلة والعقارية وغيرها التي يحتفظ بها هؤلاء الحكام واسرهم واعوانهم. والمرء يتساءل كيف كانوا يجدون الوقت الكافي لادارة شؤون بلادهم وهم مشغولون طوال الوقت بجمع ومتابعة وتنمية ثرواتهم من دماء الشعوب. لم يفكر احد منهم ان جزءا يسيرا جدا من ثروته ربما بضعة دولارات، يمكن ان تنقذ حياة طفل مريض في شعبه ربما كان في حاجة الى دواء لم يتسن لاسرته ان تشتريه له. ربما لم يفكر احد منهم ان هناك عشرات المئات بل ربما اكثر قد يبيتون جوعى لانهم لم يجدوا ما يأكلونه. هذه اشياء لم تدر بخلدهم ابدا ولا حتى عبرت مخيلة اذنابهم. الامر يبدو كما لو كان النهب المنظم هو المنهج القويم الذي يسير عليه هؤلاء. والغرب الذي يعرف كل هذه الكوارث بل ويحتفظ بهذه الحسابات الضخمة في بنوكه لا تهمه المباديء ولا القيم وانما المصالح، فعندما احتجزت سويسرا هنيبعل نجل القذافي ابن صاحب الضيعة الليبية لانه اساء التصرف بما لا يتماشى مع القوانين السويسرية قطع العقيد النفط عن سويسرا وسحب مئة مليار دولار من بنوكها كما نادى ابنه بتقسيمها بين جيرانها وذهب الرئيس السويسري الى ليبيا واعتذر عن اساءة سويسرا الادب مع نجل العقيد. اما جمال مبارك فقد كان يوزع اراضي مصر وقروض البنوك كما لو كان يجود بقروش قليلة من جيبه. ومازالت ثروة ال مبارك غير معروفة الى الان وقد يطويها الكتمان كسر من الاسرار الكثيرة التي يغص بها تاريخ مصر.
اما المبدأ الاخر في الدولة الضيعة فهو عدم احترام الشعب واختزاله في مرتبة العبيد. وهذه الدول تعامل على انها ضياع شخصية ليس فحسب من النواحي المالية والاقتصادية بل ايضا من النواحي السياسية والانسانية والاخلاقية فأقصى ما يحلم به هؤلاء الذين شاءت اقدارهم ان يولدوا في ارض الضيعة هي الحياة في مستوى متدن وغير ادمي والقبول، رغم ذلك، بكل شيء. ولا يحلم احد بالطبع من هؤلاء بالتطلع الى مناقشة الفرق بين ما يجب وما هو قائم والا كان مصيره الهلاك او على الاقل الابعاد والاقصاء.
وهؤلاء الحكام في العادة لديهم قناعة ان شعوبهم لا يمكن اطلاقا ان تفرز ابدا احدا افضل منهم ولا اكثر ذكاء ولا ابعد نظرا وحكمة. ولطول بقائهم في السلطة تترسب في نفوسهم بعض الظلال الخاطئة التي تحتل في اذهانهم موقع الحقيقة التي لا مراء فيها، فالعقيد يقول ان سلطاته في ليبيا لا تتجاوز سلطات ملكة انجلترا ويقول انه لا يشغل منصبا رسميا، اما الرئيس اليمني على عبدالله صالح فيصف اليمن بالتعددية والديمقراطية بينما هو يشعل مقعد الرئاسة منذ اكثر من 30 عاما.
ولكن تبدأ المخاطر عندما تظهر في الافق أي تحركات شعبية للمشاركة في السلطة او الثروة وهو ما يعد بمثابة انتزاع للضيعة من صاحبها (الشرعي) وتسليمها للعبيد. ساعتها لا يتورع السيد المالك عن ابادة العبيد فهو مطمئن الى ان اصول الضيعة طالما كانت قائمة يمكنه في لمح البصر ان يأتي بعبيد غيرهم حتى لو كان سيستوردهم. والانظمة العربية التي شهدت بلادها ثورات حتى الان لم تكن لتتردد لحظة في ابادة شعوبها باستخدام كل الوسائل. ولكن ربما كان من حسن حظ تونس ومصر ان الجيوش فيها مستقلة نوعا ما. صحيح انها جزء من النظام وتعتبر دائما موجودة في كواليس النظام وتوفر له الحماية ولكن عندما تجد هذه الجيوش نفسها في موقف الاختيار بين النظم والشعوب فانها في الغالب تلتحم مع الشعوب. حدث هذا في تونس وحدث في مصر وحدث بصورة ما والى حد ما في ليبيا. وربما يعود تفرد الحالة الليبية واختلافها عن مثيلتها في مصر وتونس الى تركيبة المجتمع الليبي القبلية الغالبة عليه وقيادة اولاد القذافي انفسهم لتشكيلات عسكرية هامة.
اطلقت النار على المحتجين في تونس وفي مصر ايضا ولكن زاد في مصر ان سيارات الشرطة والمطافي راحت تدهس البشر بقسوة في مشهد لا اعتقد انه سيفارق مخيلتنا على مدى اجيال. غير انه ربما كان الختام الصادق لحكم مبارك الذي دام 30 عاما عاث في البلد خلالها وفي المنطقة كلها فسادا وتخريبا متعمدا وكأنه ينفذ خطة شيطانية. وفي ليبيا ما زال العقيد يصر على استخدام الطائرات في قصف المدنيين وربما يتساءل المرء حقيقة كيف يتوقع ان يستمر في الحياة في ليبيا بعد ذلك حتى لو استطاع قمع الثورة وانسحبت الاساطيل الاجنبية من على شواطيء ليبيا رغم ان فرصة حدوث ذلك لا تتجاوز ربع في المئة؟. ولكن أليس هو السيد الذي يتجاوز حدود المساءلة والحساب ويمكنه دائما ان يحتمي بقلعته من العبيد ويتسلط عليهم بفضل زبانيته.
هل آن ان ينتهي نمط الدولة الضيعة من العالم العربي؟ ان هذه فرصة فريدة للشعوب العربية. لقد بدأتها تونس ونحن ندين لها بالفضل في ذلك. لقد قدم لنا التونسيون برهانا على ان ديكتاتورا راسخا ومتمكنا ومتمترسا بين اركان نظامه القوية لا يعد خلعه مستعصيا. غير انه من المسلم به ان الثورة بمجرد ان تبدأ في مصر فسوف يمتد صداها من الخليج الى المحيط. فأي حدث كبير في أي دولة عربية يعد الى حد ما حدثا فريدا خاصا بها ولكن هذا الحدث عندما يقع في مصر فانه يكتسب صفة العموم ويعد حدثا عربيا عاما وليس مصريا فحسب. على الشعوب العربية ان تتطهر من ادرانها التي تمثلها هذه النظم وتنظر الى الغد نظرة جديدة تفيض بالامل والحرية والثقة في المستقبل مثل بقية شعوب العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق