هل تتحمل شماعة مبارك كل هذا؟
فجأة راحت ارض مصر تنبت الثوار ولا شيء غير الثوار. هنا لينين وهناك تروتسكي وتشي جيفارا وحتى روزا لوكسمبورج. وربما لا يجتمع هذا العدد الكبير من الثوار في فترة واحدة ولا مساحة جغرافية ضيقة ولكن هذا هو ما حدث في مصر. أليست مصر بلد المعجزات والعجائب؟. مصر اصبحت بقدرة قادر كلها من الثوار حتى الاطفال. ومن يدري فقد يخرج علينا طبيب دجال يقول ان لديه جهاز اشعة يعرف الجنين في شهره الثاني ما اذا كان سيولد ثوريا من عدمه. وربما نجد اخر ينصح الزوجين الا يقتربا من بعضهما البعض الا ابتداء من 25 يناير الى 11 فبراير حتى لا يبتليا – حاشا الله – بطفل او طفلة غير ثورية.
تغير وجه مصر الذي ظل جامدا مثل وجه ابي الهول لمدة 30 عاما فذابت فجأة كل العناصر الرجعية وتبخرت ولم يعد هناك، اينما قلبت البصر، سوى الثوريين الاصلاء. ثوريون من كل الاجيال وكل الاعمار. اعرف مثلا عضوا جاهلا كان في مجلس الشورى المنحل عن حزب الهباب الوطني، ايام الثورة كان مشغولا بطباعة اوراق لا حصر لها على نفقته تدعو شباب المنطقة الى عدم الذهاب الى ميدان التحرير. وعندما القى مبارك خطاب الاستجداء دفع اموال لمئات منهم ليطوفوا المنطقة بسيارات نصف نقل تحمل مكبرات صوت وتهتف بحب مبارك. هذه الايام سمعت ان سعادته يحاول تأسيس حزب اسمه ثوار 25 يناير.
ومن الغريب ان من كان يلعق احذية النظام امس ويدافع عنه، لم ينطو اليوم على نفسه مكسورا يلعق جراحه ويتوقع في أي وقت ان يكون في موقف المساءلة، بل انه سارع بالانضواء تحت لواء الثورة واصبح من المنافحين عنها والمتحدثين باسمها المستعدين لبذل الغالي والرخيص في سبيلها. والمصريون معروف عنهم تاريخيا انهم براجماتيون الى حد العبودية وثوريون الى درجة الانتحار ولا احد ينكر ان ثلاثة عقود من حكم مبارك قضت على كل القيم والافكار والمشاعر الجميلة التي نأمل ان تكون بقية من بقاياها مازالت عالقة بثيابنا مثل الخجل والحياء.
رجال اعمال كثيرا ما انحنوا على ايدي النظام يقبلونها وربما ايضا قدميه يتنصلون اليوم من أي علاقة او معرفة بجمال او مبارك او غيره من اقطاب النظام، بينما كانت معرفة هؤلاء – من اسابيع قليلة – هي مفاتيح الثراء والنفوذ. واصبحوا يتسابقون على الملأ في تمويل اعلانات مدفوعة يتبرأون فيها من انتساب الاسرة الهالكة او أي افرادها الى شركاتهم او حتى الى حملة اسهمها.
الصحفيون الذين كانوا يشيدون بالنظام ليلا ونهارا ويمجدون كل سيئاته ويسبغون عليها نعوت الاعمالاا الملهمة التي لا تصدر الا من زعيم عظيم يقترب من مصاف الالهة، اصبحوا اليوم يلعنون نفس الاعمال ويصفونها بانها جلبت الخراب على مصر وينعتون النظام السابق نعوت ربما لم ترد في خيالهم. أليس هذا هو نفس الشخص الذي كنا نستغرق نحو اسبوع في الاعداد لمقالة عيد ميلاده ونظل طوال الليل نضع كلمات ونحذف عبارات ثم نذهب الى اسرتنا ونطفيء الانوار عسى ان يجود الله علينا بفكرة لم يسبقنا اليها صحفي منافس فننهض بسرعة ونسجلها.
فجأة اصبحت الصحف التي جرى العرف على وصفها بالصحف القومية تنافس الصحف المستقلة بل وتتفوق عليها في العناوين الصارخة والرنانة بصورة تجعلك تتساءل عن سبب هذا التغيير ومن هم هؤلاء الصحفيين الثوريين الجدد الذين اتت بهم رياح الثورة الى الصحف. الواقع انهم نفس الاقلام ونفس الكتاب الذين كانوا يكتبون نفس العناوين لتمجيد الزعيم الاوحد ودرة عصره هم الذين يكتبون العناوين الجديدة بعد ان لحقوا بركب الثورة وتنكروا لماضيهم وتنكروا لولي نعمتهم بعد ان قلب له الزمن ظهر المجن. من يصدق ان صحيفة حكومية تخصص صفحة لمتابعة اخبار الفساد وهي التي كانت منذ ايام تنكر ان يكون هناك أي فساد.
ولن تجد اغرب من رجال الاعمال والصحفيين سوى المسؤولين الذين عملوا عن كثب مع حسني مبارك لسنوات وكانوا سعداء بعملهم معه الى ان لفظهم. وهؤلاء يتحدثون عن تعسف الرئيس السابق معهم واضطهاده لهم والمواقف الوطنية والسليمة التي ادت الى طردهم من مواقعهم، ويكشفون لنا اشياء اشبه بالألغاز وكأنهم يتحدثون عن سر من الاسرار او يتحدثون لبشر لا يعيشون في نفس البلد ويعرفون كل شيء.
لا ادري حقيقة لماذا استيقظ الوازع الوطني فجأة عند هؤلاء من سباته العميق وراحوا يكشفون كوارث النظام السابق. الم يكونوا يوما ما جزءا من النظام يسبحون بحمده ويرفلون في نعيمه ويحرصون على استمرار رضاه عنهم. هل تجرأ أي منهم واشار ولو من بعيد أي اشارة الى سخطه على النظام او تذمره منه قبل سقوطه. انهم حتى لم يكونوا يجرؤون على أي نقد موضوعي لاي قرارات اتخذها.
تكتشف فجأة ان العالم مليء بالمآسي والظلم وان هؤلاء المسؤولين طالما كابدوا وعانوا وتحملوا المشاق, وتجدهم يقولون "مبارك قال لي" و "مبارك فعل لي" و "مبارك ابعدني لاني فعلت كذا" و "مبارك لم يكن يحبني ابدا" و "مبارك اجبرني على اتخاذ القرار الفلاني". وهذه طبعا مسرحيات وافتعال بطولات غير موجودة بالمرة. لقد اصبح الجنزوري والكفراوي وعمرو موسى وكثيرون غيرهم من نجوم الصحف الذين يتحدثون باستفاضة واسهاب عن فظائع النظام البائد. والامور رغم سوداويتها، لا تعدم مسحة من الكوميديا، فقد ذبنا من الدهشة عندما خرج علينا رئيس مصلحة الضرائب ليبلغنا ان مبارك لم يدفع ضرائب على مدى 30 عاما؟. طبعا الرجل لم يذكر انه حاول ولو مرة واحدة هو او أي من موظفيه ان يتوجه الى القصر الجمهوري ليقوم بواجبه او يناقش الامر حتى مع وزير ماليته. ولكن هل من المنطقي ان يفكر رجل ينهب البلاد ويتيحها نهيبة للمقربين منه في دفع الضرائب؟.
ولا يجب ان يفوتنا ان هؤلاء المسؤولين السابقين يمهدون بذلك اما للعودة الى السلطة بصورة او اخرى او انهم متحصنين فيها بالفعل ويسعون الى تبرير اخطاء ارتكبوها او كوارث يخفونها. والتبرؤ من النظام البائد هو جواز عبورهم للعالم الجديد خاصة اذا كنت ممن اضير شخصيا منه وطالك اذاه.
ولكن لماذا اصابنا العمي والبكم والخرص على مدى عقود وفتح الله علينا فجأة وازال الغشاوة عن أعيننا بعد سقوط النظام؟. لماذا لم نبد أي اعتراض او احتجاج سابق او حتى نظهر عدم رضانا من قبل.
ان هؤلاء المسؤولين يتحدثون وكأنهم في افضل الاحوال ولايا مكسورات الجناح لا حول لهن ولا قوة وفي اسوأها يشبهون مجموعة من القصر الذين تعرضوا للتحرس الجنسي على يد مدرس قاس ولكنهم كتموا الامر الى ان افتضح امر المدرس فراحوا يتقدمون ببلاغ تلو الاخر.
لقد كان مبارك يدمر البلد تدميرا منهجيا ومتعمدا امام اعيننا جميعا. ولو كانت اسرائيل وامريكا وكل القوى الشريرة في العالم اسندت مهمة تخريب مصر الى عصابة من الشياطين لما نجحت فيها كما نجح مبارك وحزبه. ولكن احدا منا لم يجرؤ على رفع صوته والاحتجاج او الرفض. لم يفكر أي منا في تقديم استقالته لكي يفتح الطريق امام صفوف من الخائفين الاخرين، ولم يفكر أي منا – وهو اضعف الايمان - في التكشير او العبوس او تضييق ابتسامته لما يجري. فلماذا الثورية الان ولماذا نهيل كل هذا السباب على مبارك ونتهمه بكل نقيصة ونلحق به كل خزي وعار. ألم نكن شركاء في الجرم ومتواطئين معه. ان الذين يلعنون مبارك ليلا ونهارا بعد ان كانوا يسبحون بحمده اناء الليل واطراف النهار او حتى صمتوا صمت القبور عندما كان في السلطة ليس من حقهم الان ان يكيلوا له الشتائم لان مصائرهم لن تختلف كثيرا عن مصيره فالجميع في النهاية سيساقون الى مزابل التاريخ.