المجتمع
المصري يعج بنماذج من البشر عندما يتوقف عندها الانسان لا شك تستغرقه حالة من
الدهشة والاستغراب. هل هؤلاء بشر احياء بالفعل ام مجرد كائنات هلامية خرجت لتوها
من بين دفتي رواية لكاتب مبتديء أو غير حاذق. انها نماذج من لحم ودم تعيش بيننا
وتتنفس نفس الهواء الذي نتنفسه وتتحدث نفس اللغة، ولكنها تأبى الا ان تقيم عالما
خاصا بها تصنع فيه قيمها ومواقفها من الحياة والبشر وكل شيء في العالم وفقا لما
يتماشى مع منطقها الاعوج.
الدكتو
قدرة او عبدالقادر الذي يعمل بإحدى كليات القانون في الجماهيرية الليبية الشقيقة
هو شخصية روائية ومع ذلك لو فكرت في وضع رواية عنه لاتهمت بالمبالغة الزائدة او
المغالاة غير المبررة ولن تجدي بالطبع في هذه الحالة ان تقدم أي توصيفات من قبيل الواقعة
الاشتراكية او الواقعية الشكلية او حتى الواقعية السحرية لان الواقعية في حالة
الدكتور من نوع الواقعية الطينية أو الغرينية.
والدكتور
لا يعي شيئا تقريبا خارج نطاق دراسته وليس لديه وعي ولا احساس بالتاريخ ولا حتى بالمنطق او الفهم او العلاقات البشرية وكيف
يجب ان تكون ولم يقرأ تقريبا حتى حصوله على الدكتوراه وربما حتى تاريخنا هذا سوى
الكتب المتعلقة بمجال دراسته الا انه ورث فيما ورث فكرا تقليديا راسخا في هذا
المجتمع منذ ايام العثمانيين وهي ان الناس تقيم وفقا لدرجاتها الدراسية وشهاداتها
العلمية. ويمكن ان يتجاهل الدكتور كلمات احد اعمامه او اخواله أو اخوانه الكبار
لمجرد ان الرجل لم يحصل الا على الابتدائية او الاعدادية رغم انه يحظى باحترام
كبير بين افراد العائلة ويفهم تقريبا اضعاف اضعافه في امور الحياة وشؤون البشر.
الدكتور
يعتقد ان اولئك الذين حصلوا على الدكتوراه هم فئة من البشر تتفوق على البشر
العاديين. والواقع ان هناك كثيرين في مصر من حملة "الدرجات العلى" يفكرون بنفس
المنطق. وربما ادى الى ذلك التصوير لدى الدكتور ان احدا من اشقائه لم يحصل على أي
شهادات كبيرة او تملأ العين بل ان الذي تعلم من بينهم يكاد يفك الخط بصعوبة.
ولكن
عندما يدرس المرء حياة الدكتور سيكتشف في أي مجتمع من العاهات والمرضى يعيش كثير
من المصريين، وسترى ان مصر ما هي الا مستشفى امراض عقلية كبير. والمصريون، في
الغالب، لا يسألون انفسهم كيف يتصرفون او الى أي منطق تستند تصرفاتهم التي تبدو
لهم هم انفسهم حتى غريبة.
الدكتور
حصل على الثانوية العامة من احدى قرى مصر الواسعة حيث كان يقيم في مكان لا يفصله
عن المواشي سوى جدار منخفض هش من الطوب اللبن. وكان صوت الجاموسة وهي تحك ظهرها في
الجدار يبدو له جليا واضحا كما لو كانت تنام الى جانبه. وكان لسعادة الدكتور شقيق
يتولى شراء الكتب الخارجية له طوال تلك السنوات الى ان اتى للاقامة معه في القاهرة
في حجرة فوق السطوح وبدأ يدرس الادب الانجليزي ولكنه فشل في دراسة الادب عامين
متتاليين فتحول الى الحقوق وافلح فيها. انهى الرجل دراسته وبدأ يتدرب في مكتب
محام. وضاقت غرفة السطوح بسكانها فانتقل الجميع الى شقة اوسع في شبرا الخيمة في
الطابق السادس كانت امطار الشتاء تزحف على سقفها وجدرانها مثل الافاعي بينما تتحول
في الصيف الى فرن.
الدكتور
ظل يعمل في مكتب المحاماة ويتقاضى الملاليم الى ان فتحها الله على احد اخوانه
الاخرين واشترى شقة في الزيتون وسمح للمحامي ان يستخدمها كمكتب. وقال المحامي الذي
كان قد حصل على الماجستير في القانون من نقود اخيه صاحب الشقة انه يريد ان يحولها
الى مركز تدريس واخذ منه مبلغا اشترى به مقاعد ذات مساند ومكتب فخم وطقم انتريه
فخم من الجلد. وفوجيء اخيه بعد فترة قصيرة بالمقاعد الخشبية تختفي ولم يسأله اين
ذهبت ولا اين فلوسها. بعد فترة قصيرة توجه اخيه الى الشقة وكان معه مفتاحها ففوحيء
بان الكالون تغير. وسأله فقال ان المفتاح ضاع منه وخشى ان يكون البعض قد عثر عليه
لذلك غير الكالون ولكنه لم يعط لاخيه نسخة.
اكتشف
اخيه بعد فترة ان سعادة المحامي يستخدم الشقة "جارسونيرة" حيث يستدرج
موكلاته اليها. وربما يعتبر ذلك نوع من الخيبة الثقيلة والتنكر للنعمة وانعدام
التفكير، فالمحامي مثلا لم يفكر انه لولا فتح الله على اخيه وتمكن من شراء هذه
الشقة ليجعلها مكتبا لكان هناك نائما في البلد يـأتيه نعير الجاموسة عبر الجدران،
واقصى امانيه في العمل تتمثل في كتابة عقد لقيراط ارض يأخذ منه اتعاب 100 جنيه، وهو
ما يعطينا درسا خطيرا في مضاعفات الحرمان وكوارثه وكيف ان انعدام القدرة على
التصور والتخيل قد يكون مصيبة كبرى في احيان كثيرة. اطرف ما في الامر ان الرجل راح
يسجل لضحاياه فيتعمد ان يتكلم معهن بالساعات على سبيل الاستدراج وهو يقول كلاما في
منتهى الانحطاط والسفالة ويضعهن تحت رحمته ويحتفظ بشرائط الكاسيت. كان طوال ذلك
الوقت يقيم في شقة اخرى مع اخيه صاحب شقة المكتب بينما يستخدم المكتب كمعمل
للصوتيات. وفوجيء اخيه في يوم بفاتورة التليفون تأتي ضخمة للغاية على غير المتوقع.
وذهب الى السنترال وطلب فاتورة تفصيلية واكتشف ان اخينا كان يتحدث الى موكلاته
العاشقات في المحمول من تليفون اخيه اما تليفون المكتب الذي يدفع هو فاتورته فكان
يستخدمه في التسجيل وقد اعد بالشقة عددا من اجهزة التسجيل الكبيرة والصغيرة وكافة
الاحجام لزوم العمل. ولا احد يعرف لماذا كان يسجل الاستاذ لموكلاته. ولكن الدلائل
تشير الى ان الهدف كان بغية ابتزازهن الجنسي والمالي. ومن الطريف حقا ان احداهن
تحدثه عن مخاوفها ان يكون هو يسجل لها ولكنه يقسم انه لا يسجل لها وكلما اراد ان
يقلب الشريط تنتابه نوبة من السعال الشديد حتى ينتهي من المهمة التي قد تكشفه
للضحية.
وهنا
غضب اخوه وثار ودعا كبار العائلة ومنهم اشقائه الى اجتماع عاجل. وتقرر في الاجتماع
ان يتم منحه الشقة عام ونصف مجانا حتى يدبر اموره ثم يخليها. ومر العام والنصف
ومرت بعدها حوالي خمسة اعوام اخرى دون ان يفكر اخيه في اخراجه من الشقة حيث لم يكن
في حاجة اليها، كما ان اخينا لبس ثوب التقى واعلن تنكره لما بدر منه من فسوق.
ولكن
عندما احتاج صاحب الشقة اليها ارسل الى بعض الوسطاء الذين كانوا شهودا على الاتفاق
القديم ليتحدثوا اليه. ولكن الغريب ان المحامي رفض مبدأ التخلي عن الشقة وبدأ
يستشهد بطول اقامته فيها على انها شقته. واضطر اخيه ان يرفع عليه دعوى فظل يماطل
ويخسر الدعوى في محاكم الدرجة الاولى لينقلها الى الاستئناف. وبعد ان يخسرها يبدأ
دعوى اخرى جديدة. وظل الرجل مقيما في الشقة منذ عام 1997 الى يومنا هذا ومازال
يماطل. كانت الشقة يوم شرائها تساوي 50 الف جنيه وهو الان يطالب بان يعطيه اخيه
مئة ألف جنيه حتى يخرج منها او يأخذ مئة ألف جنيه ليتركها له.
الغريب
في الامر وهذا شيء ربما يحتاج الى محللين لدراسته ان الرجل متدين جدا فهو طوال
رمضان لا يترك ركعة من التراويح او القيام وعندما يسمع ابن اخيه وهم يستمع الى بعض
الاغاني في المحمول يقول له بصوت عال "جهنم وبئس المصير" ويحرص في عيد
الاضحى على التضحية ولكن اللحوم التي يرسلها لاخوانه واقاربه ترد اليه مرة اخرى
دون ان يقربها احد وهم يتعثرون في خجلهم ويقولون له ان ثلاجاتهم ممتلئة ولا شك ان هناك
من هم اولى منهم بها. ولكن الحقيقة انهم يشعرون بالشك فيه وفي أي شيء يمكن ان يأتي
من ناحيته. واذا تحدثت الى احدهم وناقشت معه الامر بجدية يقول لك ببساطة شديدة "ياعم
هو احنا عارفين فلوسها جاية منين..دي الفلوس بتاعة شقة فلان اخوه الى هو مغتصبها
وقاعد فيها بالعافية تجيب له تلات اربع عجول في السنة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق