في فوائد "الاحتداد" على مبارك
ليس من النبل ولا الشهامة ولا الاخلاق الحميدة ان يهاجم المرء شخصا لقي ربه واصبح في عداد الموتى. ولكن بعض الصحفيين يلعنون مبارك ليلا ونهارا ويهاجمونه ويصفونه بكل ما هو بشع ولعين كما لو كان المنصب الذي امضى فيه الرجل 30 عاما قد حجب عنه كل سيئاته وهو يشغله ولم يظهر منه طوال هذه الفترة الا كل ما هو حسن وجميل، فلما سقط اهاب السلطة تبدت كل سيئاته وبدا عواره واضحا مثل الملك العاري الذي لم يفطن الى عريه الا طفل صغير من بين الجموع.
لقد كان مبارك بشعا فوق كل تصور ولم يترك لنا البلاد وهي عارية من كل شيء من الاقتصاد الى الكرامة الى الاخلاق فحسب بل خلف لنا ايضا ارثا من المرارة والحزن والالم قد يستمر اجيالا. ويكفي حالة الانقسام الغريبة بين الشعب، ففي الوقت الذي تئن فيه أسر شهداء الثورة من الالم وينتظرون من يخفف احزانهم مع توالي عمليات البراءة للقتلة، نرى البعض يسعى الى العفو عن مجرمي النظام مقابل حفنة من الجنيهات. وهذا خطأ لو وقع لكان كارثة ولأدى الى المزيد من الانقسام بين فئات الشعب المصري ولكان ايذانا بضياع هيبة القانون واحترامه.
في اوروبا في القرون الوسطى شاع بيع صكوك الغفران لملء خزائن الباباوية التي رأت ان تتوسع في "البيزنس" فاصبحت تبيع الصكوك حتى لاثام لم ترتكب بعد واصبح الشخص الموسر يشتريها على سبيل الاحتياط خشية ان يرتكب اثما في قادم الايام. ونحن نسير على نفس الدرب تقريبا لان أي شخص يمكن ان يرتكب بعد ذلك أي جريمة وهو يعرف جيدا ان جريمته لن يكون ثمنها سوى حفنة او بضع حفنات من الجنيهات.
ان تمييع الامور على هذا النحو واختلاطها المتعمد هو الذي شجع البعض ممن كانوا من اقطاب نظام مبارك ان يخرجوا علينا بوقاحة منقطة النظير ليرشحوا انفسهم في انتخابات الرئاسة بدلا من ان يتواروا خجلا بعيدا عن الانظار الى ان يطويهم النسيان.
واعلام المجلس العسكري الذي لا يقل دناءة وانحطاطا عن اعلام مبارك يحاول ان يخلق حالة من الاقناع لدى المواطن بان هذه الامور عادية وان ترشيح فلان الفلاني هو امر طبيعي جدا وعادي جدا. فيأتي باخبار المرشح الملوث مع المرشحين الشرفاء وكأن الكل سواء. هل هناك بلد في العالم في القرن الحادي والعشرين يرشح فيها شخص يجب ان يكون نائما الان في مزرعة طرة اللهم الا مصر؟.
بالأمس القريب خرج علينا مكرم محمد احمد ليخبرنا ان عمرو موسى احتد على مبارك مرتين. ولنا ان نتخيل مجرد تخيل ان وزيرا كان يمكن ان يحتد على مبارك، ناهيك عن ان يكون موسى. لقد كان مبارك مريضا بجنون العظمة ولديه تصور مغلوط عن نفسه انه يفهم في الاقتصاد والسياسة والبنوك والنقل والتكنولوجيا وعلم الصواريخ والكيمياء وكل شيء تقريبا وان مصر لم ولن تنجب في عبقريته. وكلنا نعرف الحكاية التي رواها مجدي مهنا رحمه الله عن ابراهيم سليمان عندما ذهب الى مبارك ليعرض عليه مخطط طريق المحور واشار الى خط المترو المتجه من القاهرة الى 6 اكتوبر. فقال له مبارك انه يريد ان يذهب الناس الى 6 اكتوبر ليبيتوا فيها ولايريد عودتهم. وبناء عليه الغى المترو بجرة قلم. اما الوزير الذي انفقت وزارته مبلغا كبيرا على دراسات الجدوى والفوائد الاقتصادية لهذا الخط فلا شك انه هلل للسيد الرئيس وقال له انه فلتة في عالم النقل الحديث وان من حسن حظ مصر ان حباها الله شخصا فذا من طرازه. هل هذا رجل يمكن ان يحتد عليه عمرو موسى ام ان الفلول يخدمون بعضهم البعض؟.
ويقال طبعا ان احد اسباب احتداد موسى على مبارك وفقا للرواية التي لم يسمع بها احد والتي يقال وفقا للراوي ان قوة "الاحتداد" جعلت زكريا عزمي وجمال عبدالعزيز ينتفضان، هو ان مادلين اولبرايت طلبت استبعاد موسى من اجتماعها مع مبارك.
ان هناك موقف مماثل يثبت ان حكاية "الاحتداد" مفبركة. وكلنا يذكر في عام 2009 عندما قامت اسرائيل بحملتها المسعورة على جيب غزة واعتصم وزراء الخارجية العرب في مجلس الامن مثل النساء الثكالى وقالوا انهم لن يبرحوه الا بعد ان توقف اسرائيل هجومها. في هذه الايام كان موسى يشغل منصب امين عام جامعة الدول العربية واجتمعت وزيرة الخارجية انذاك كوندوليزا رايس بوزراء الخارجية العرب واستبعدت موسى من الاجتماع دون ان يحتد عليها. ولو قارنا مبارك برايس لقلنا ان رايس ربما امكنها ان تتفهم سبب الاحتداد وهي في النهاية ليس لها سلطة عليه على عكس مبارك تماما.
ولا نستبعد ان نسمع غدا ان فلانا شخط في مبارك وان ثالثا صفعه وان رابعا ربما ركله من اعلى الدرج وهو السبب في ذهابه لتلقي العلاج في المانيا عندما اجريت له جراحة في الظهر.
وليس كل من اختلف مع مبارك يصلح وهو الخطأ الذي وقعنا فيه، ولكن من المؤكد ان كل من عمل معه ولو ليوم واحد لايصلح لشيء. لقد فصل مبارك عصام شرف وحملناه في التحرير وطفنا به وقلنا انه منقذ مصر لمجرد انه قاد مظاهرة يوما ضده، فهل وجدنا لديه ما نشدناه. واتينا بالجنزوري وقلنا ان مبارك اضطهده وفصله فكان اسوأ من شرف. وانتخبنا الاخوان وقلنا انهم اضطهدوا من مبارك فتجاهلونا وراحوا يتصرفون كما لو كان ابناء جزر المالديف هم الذين اتوا بهم الى البرلمان.
ان مبارك انتهى يوم تنحي من السلطة وانتهت معه فترة من اسوأ فترات التاريخ المصري. والحقائق التي كنا نعرفها عن عهده قبل التنحي لم تكن اكثر من قمة جبل الجليد الطافية. وربما كان هذا هو سبب استماتة كل رموز الرجعية والاستبداد والجهل في العالم العربي في الدفاع عنه. أما دفاع الامريكان عنه وتخيلهم السريع عنه ايضا فيثبت مدى النفاق العفن الذي تتحلي به اكبر دولة في العالم والتي تضع مصلحة اسرائيل ومصلحتها اولا وقبل كل شيء.
عهد مبارك من اقسى العهود على المصريين. لقد اضاع هذا العهد الأسود اجيالا واجيالا من المصريين ويجب ان نخجل منه كما يخجل الالمان من عهد النازي. النازي حتى كانت جرائمه ترتكب ضد شعوب اخرى اما مبارك فكل جرائمه ومصائبه وكوارثه انصبت علينا. مبارك مكث في السلطة 30 عاما ولكننا ربما كنا في حاجة الى الى أكثر من نصف قرن لنتخلص من ادرانه.
وهناك اطراف كثيرة لها مصلحة ان يتم اختيار معين منهم المجلس العسكري وبعض الاحزاب والقوى السياسية. اما على صعيد الخارج الخارج فقد انبأنا مصطفي الفقى منذ سنوات غير بعيدة ان أي رئيس يتولي السلطة بعد مبارك يجب ان تباركه امريكا واسرائيل. ولا ادرى ما اذا كان ذلك ما زال ساريا حتى الان ام انه تغير. ولكن الواضح ان الشعب لا يبدو طرفا بارزا في لعبة الاختيار والترشيح وما يسبقها ولو حتى بمراعاة مصالحه. وقد يتم تلميع المرشح وتقديمه له او يتم تزوير الانتخابات لصالح مرشح معين ولكن في النهاية – وكما يحدث دائما – سيخرج الشعب خاسرا من ملحمة الرئاسة.
ولا يكفي ان يكون المرشح ممن غضب عليهم مبارك يوما لكي نقول انه المرشح الصحيح، ولكن كل من صافح مبارك يوما او جلس معه، ناهيك عن ان يكون عمل معه او تولي أي منصب رسمي في عهده، يجب ان نقول له بصوت عال انه لا يحق له ترشيح نفسه.
نحن لا نريد ان يرثنا مبارك اخر ياتي بانتحابات ديمقراطية في الظاهر ولا يكفي ان نقول اننا سنتظاهر او نحتج اذا ما انتخب احد مخلفات النظام السابق بل يجب ان نرفض ذلك من الان وبكل وضوح. اذا كان هؤلاء ليس لديهم من الحياء ما يردعهم عن الترشح لهذا المنصب فابسط شيء ان نقول لهم نحن ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق