الصفحات

الأحد، مارس 04، 2012




في قضية التمويل الاجنبي



كما كان متوقعا، انتهت قضية التمويل الاجنبي فجأة كما بدأت فجأة ولكن تداعيات الحدث مازالت تمور وتموج حولنا وتصنع نوعا من الروايات غير مكتملة الحبكة او الروايات ذات النهاية المفتوحة.

والواقع ان القضية اساسا نهضت من لاشيء، أي انها لم تكن من البداية قضية وما كان يجب ان توجد من اصله. هذه الجمعيات تفعل ما تفعله الان منذ سنوات. صحيح انها بدون ترخيص او لم تحصل بعد على ترخيص ولكن هل من المنطق ان نتغاضى عنها متى نريد ونمسكها متلبسة بالجريمة متى شئنا.

والامر يرتبط بضعف القانون وضعف احساسنا به. انه القانون الذي يمكن ان نستفزه ونثيره ونحركه ضد خصومنا في حين نتجاهله عندما يحلو لنا. والحاجة الى تفعيل ذلك سوف يستغرق وقتا طويلا ويحتاج الى تغيرات مجتمعية عميقة. هناك ترسانة ضخمة من القوانين التي كان يفعلها مبارك ضد خصومه ثم يتركها لتأخذ اجازة متى أراد أي انه بمعنى اصح يتغاضى عنها عندما يكون الامر متعلقا بأحد اتباعه.

كان من المتوقع ان تنتهي الزوبعة كما بدأت فالعلاقة بين مصر وامريكا منذ بدأت مع معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، قدر لكل طرف ان يلعب دوره فيها بحساب دون ان يستطيعا منها فكاكا مثلها مثل الزواج الكاثوليكي.

والتصعيد الدرامي الذي شهدته قضية التمويل الاجنبي ثم الهبوط بها ايضا من الذروة الى الحل المفاجيء والسريع هو ما نتوقعه من طبيعة هذه العلاقة. والذين يتحدثون عن استقلال القرار المصري والسيادة المصرية لايمكنهم تغيير طبيعة تلك العلاقة. واي تغيير كبير في طبيعتها يستلزم خروج القوات الامريكية كلها من المنطقة على النحو الذي شهدناه في سايجون عندما هبطت طائرات الهليكوبتر على سقف السفارة الامريكية لاجلاء اخر رعاياها منها في السبعينيات من القرن الماضي. وهذه امور قد يشهدها جيل عربي اخر ربما لم يولد بعد.

مصر دوما هي الجانب الاضعف في تلك العلاقة ولكنها لم تستفد من المناورة التي ربما كان مقصودا منها بالاساس تحجيم جمعيات المجتمع المدني المحلية والحد من التدخل الامريكي. فقد انقلبت مناورتها عليها وخرج اولئك في منتصف الليل وتحت جنح الظلام حيث ركبوا طائرة عسكرية امريكية يقال انها اتجهت الى قبرص. ولكن احدا في مصر لم يقدم لنا تفسيرا ولا تبريرا. وارادات الحاجة كلينتون رفع الحرج عنا – او لنقل انها زادته – فاعلنت انه لا توجد جهة تنفيذية في مصر تتمتع بالسلطة لتحديد سياسات الحكومة المصرية خلال الفترة الانتقالية.

ومهما كانت المبررات والظروف للافراج عن هؤلاء الا ان العملية كان يمكن اخراجها بصورة افضل بحيث لا نحرج القضاء لدينا ولا نشعر المواطن العادي بمدى ضعفنا كدولة. اننا الطرف الاضعف في هذه العلاقة ويجب ان نسلم بذلك ولكن كان علينا ان نتصرف بطريقة تحفظ ماء وجهنا.

من الواضح طبعا ان رفع اسماء المتهمين الامريكيين من قوائم الممنوعين من السفر صدر من المجلس العسكري ولكن المستشار محمد شكري يتحمل درجة كبيرة من اللوم لان التنحي عن نظر القضية ليس هو الحل الامثل في هذه الحالة بل كان عليه التمسك بموقفه، خاصة ان القضية - وان لم تكن قضية - احيلت للجنايات وفقا لنصوص القانون المصري. ولكن رغم ذلك فالامر يدعو الى التفاؤل بصورة ما لان تنحي القاضي عن نظر القضية لتعرضه لضغوط ربما كان افضل من الاستجابة لهذه الضغوط ولكنه اقل من تمسكه بموقفه واصراره على نظر القضية الى النهاية.

انا لا اميل الى تصديق ان هؤلاء كانوا يعملون على تخريب مصر بنفس الطريقة الفجة التي وصفتها بعض وسائل الإعلام. وامريكا ليست من السذاجة بحيث تلجأ الى تلك الاساليب مع حليف هام، بل تعتمد في علاقتها بمصر على اليات للسيطرة والتوجيه على المدى الطويل.

وربما كان احد اهداف القضية هو حشد الدعم الشعبي خلف الادارة المؤقتة للبلاد ولكن هناك العديد من القضايا الاكثر اهمية من قضية التمويل الاجنبي لمنظمات المجتمع المدني، التي يمكن اللجوء اليها في هذا الصدد. غير ان انهاء القضية على هذا النحو سواء كان عن طريق تهديد امريكا بقطع المعونة او عرقلة اقتراض مصر من مؤسسات التمويل الدولية او كلاهما معا، كان يمكن اخراجه بصورة افضل تجنب القضاء لدينا مغبة الحرج وظهورنا بمظهر الضعف في قضية – قلنا نحن – انها تتعلق بالامن القومي. وفيما يبدو فان السيدة كلينتون لم تسمع بعد بصندوق العزة والكرامة الذي سنلفظ به المعونة الامريكية والقروض الاجنبية وكل ما من شأنه ان يسمح للاخرين بالتدخل في شؤوننا.

غير ان اهمية القضية تكمن في انها اثارت الحمية التلقائية لدى بعض مذيعي برامج الطنطنة في القنوات الفضائية الذين راحوا يتبارون في الدفاع عن السيادة المصرية والقرار المصري واستقلال القضاء المصري. ولكن هل تغيرت مصر كثيرا عما كان عليه الامر قبل الثورة؟. لا اعتقد ذلك. والى ان يحدث تغيير حقيقي في مصر نفسها، علينا ان نتوقع ان تكون علاقاتنا الخارجية هي الاخرى بدون تغيير.



ليست هناك تعليقات: