ديفيد طومسون |
ليس افضل من التنبلة في رمضان خاصة ان كل ما حولك يدعوك اليها ويحثك عليها بل يكاد لا يجعل امامك خيارا سواها. والتنبلة هي في الاصل كلمة تركية معناها الكسل ولدينا مصطلح تنابلة السلطان. ولسوء الحظ فنخن نعيش في عصر لا يعترف بالتنبلة كاسلوب حياة يمكن ان يعيشها المرء ولا يوحد حتى سلاطين ممن يوقفون الضياع والاموال للانفاق على تنابلتهم. وانا واثق انه لو وجد مثل ذلك السلطان في عهدنا ووقع بصره على لاعتبرني انا كبير تنابلة العصر ولاسند الى في الحال مهمة قيادة فيلق التنابلة لديه وذلك لما يتبدى على من طول الباع وعظم التجربة في عالم التنبلة.
ويقال ان احد السلاطين الاتراك انشأ دارا لرعاية العجزة والمسنين ولكنها انحرفت عن مسارها واصبحت موئلا للكسالى والخاملين فقرر السلطان ان يلقي بنزلائها في البحر ويتخلص منهم. وسمع بهذا الكلام رجل فذهب الى الدار مسرعا وبدأ يتفاوض مع التنابلة وقال ان لديه مزرعة كبيرة فيها ابقار وما اليه ويمكنهم ان يعيشوا فيه وسوف يجود عليهم اهل الخير بالكثير من الخبز الذي يمكن ان ينقعوه في الماء ويتناولوه. ولكن الامر الذي حير التنابلة وهم يتفاوضون في لحظاتهم الاخيرة والجنود يمسكون برسغهم ليتوجهوا به الى البحر: من الذي سينقع الخبز في الماء؟.
وكان الرد بالطبع انهم هم الذين سيقومون بذلك. ولكنهم رفضوا وطلبوا من الجنود ان يمضوا الى ما وجهوا اليه.
ويروى عن تنبل آخر انه كان يستظل بتكعيبة عنب يدعو الله انه يرزقه بأي شيء يأكله. وبينما هو متمدد وفمه مفتوح ربما كسلا ورفضا لتحمل مشقة اغلاقه اذا بعصفور يمر على عنقود عنب فيسقط حبة في فمه. وبدأ التنبل مواصلة دعائه وقد اتي بالنتيجة طالبا من الله ان يرسل اليه احدا ليحرك له فكيه حتى يمضغ حبة العنب.
التنبلة في رمضان – وحتى في غير رمضان – شيء جميل ولكن الكارثة انه لا يوجد اولئك السلاطين الذين يمكن ان يعتمد عليهم التنبل في تدبير امور حياته. وكان لابد من ان ينفض المرء عنه عباءة التنبلة ويخرج.
والخروج في رمضان اثناء الصيام شيء صعب للغاية ولكني كنت مضطرا ان اذهب الى المحكمة الموجودة الى جانب مشرحة زينهم. والغريب انك بمجرد ان تسير دقائق في الشمس حتى تستنفد كل الماء في جسمك تقريبا وتصير في حالة من الظمأ الغريب ويبدو حلقك متيبسا وجافا كقطعة حطب.
ولكن ماذا لو حدث معك هذا يومين متتاليين في رمضان؟ لاشك ان لن تنسى الشخص او الاشخاص الذين جعلوك تعاني كل هذا. في اليوم الاول كان الموظف غائبا. ولكن في اليوم الثاني اعطاني حكما صادما في ثلاث صفحات.
الموضوع يتعلق بقضية رفعتها انا ضد وكالة طومسون رويترز وانا لست بحاجة الى الدخول الى التفاصيل هنا، وان كنت أفكر في نشر القضية كلها وبكل مستنداتها هنا قريبا وباللغتين العربية والانجليزية لانني اكتشفت في الواقع ان ابناء العربية لكثرة اعتيادهم على الظلم والعبودية والمهانة فانهم يعتبرون هذه الاشياء من الامور المباحة والمتاحة بل وربما ايضا من النوافل. اما ابناء الغرب الذين تعلموا معنى الحرية ويعرفون الكثير من القيم التي لا يعرفها كثيرون منا من زمن فهم يستنكرون هذه الاشياء.
القضية التي لن اخوض في تفاصيلها الان تمثل فضيحة بكل المقاييس ليس للشركة فحسب بل ايضا للنظام القضائي المصري. خسارة مثل هذه القضية قد تعتبر شيئا عاديا ولكن الكارثة هي التخبط وانعدام الفهم ومحاولة الاستهبال والاستخفاف بعقول البشر.
محور الجدل في القضية هو ان الشركة تقول انني كنت اعمل لديها بالقطعة مما يتيح لها التهرب من التأمينات والضرائب وكل شيء ولكني كنت اعمل وقتا كاملا وهذه الحقائق معروفة لكل من يعمل في المكتب واذا كان لديك صديق او قريب او حتى معرفة يمكنك ان تسأله عن ذلك.
القضية احالتها المحكمة الى خبراء وزارة العدل وعندما تسمع كلمة خبراء يخيل اليك انهم ولا شك لن يتركوا شاردة ولا واردة في القضية الا وقلبوها رأسا على عقب. ولكن الامور عكس ذلك تماما فهم موظفون يحاولون تقفيل القضايا وتقديمها للقاضي جاهزة للحكم فيها وليس لديهم ادنى فكرة عن تحقيق العدالة او السعى الى الحقيقة باعتبارها قيمة مطلقة. وهم في الغالب يبتعدون عما يمكن ان يسبب لهم أي متاعب حتى لو كان الامر يعني في النهاية الوصول الى الحقيقة.
الموظفة المسؤولة لم تكترث بالخطابات المتبادلة بيني وبين الشركة لانها كانت بالبريد الالكتروني. ويبدو ان القضاء المصري مازال لا يعترف بالادلة الا اذا كانت مسجلة على ورق البردي. أما الانترنت والبريد الالكتروني فهو ينتمي ربما الى عالم الجن والشياطين والضلال.
الشركات الغربية تأتي لدينا وكثير منها مثقل بالشعور بعبء الرجل الابيض. وطالما الرجل الابيض قبل ان يرتقي بك ويجعلك متحضرا فلتتحمل النذر اليسير من تجاوزاته مثل استعباد المحررين بصورة تماثل بحارة القرن الثامن عشر وعدم دفع الضرائب وهبش حقوق الموظفين. هذه ضريبة تدفعها مقابل التحضر. وعبء الرجل الابيض يقابله لدى المصريين عقدة الخواجة وهو الامر الذي يجعل الامور تسير على هذا النحو من الانسجام والتوافق.
انا قلت انني سانشر القضية كلها هنا لتكون قراءتها من قبيل الترويح عن النفس. ولكن لا اريد ان احرم قراء هذه المدونة من شيء بسيط ربما يجعلهم يضحكون لساعات او الى ان انشر بقية القضية هنا. التقرير الذي اعدته خبيرة وزارة العدل يقول على لسان محامي الشركة بالنص "بالنسبة للمقابل النقدي لرصيد الاجازات فان العمالة الغير منتظمة ليس لها اجازات مثله في ذلك مثل محامي الشركة او المستشار القانوني للشركة اذ انه يحضر للشركة لاستلام الاعمال المراد ترجمتها ويذهب وعقب الانتهاء منها يعيدها الى الشركة ويحصل على اجره مما ينفي عنه استحقاقه لاي اجازات وينعدم معه السند القانوني".
بالله عليكم. هل قرأتم فقرة من الكوميديا الحية مثل هذه من سنوات. هذه امور يصعب ان يصل اليها ربما خيال كاتب روائي او مسرحي. هل هناك وكالة انباء في العالم تعمل بهذه الطريقة في القرن الحادي والعشرين. يذهب المترجم اليها ليأخذ العمل ويعود به الى البيت حيث يتناول الغداء ثم يشرب الشاي وقد ينام قليلا. وبعد ان يستيقظ يعكف علي العمل. وبعد ان ينتهي من العمل يعيده الى الوكالة لتبثه في اليوم التالي. ولكن ماذا لو لم ينته المترجم من العمل في اليوم التالي لاستلامه اياه. لا بأس يمكنه ان يعيده في اليوم الذي يليه. هذا جائز طبعا ويحدث ولكن في شركة لبيع الادوات المنزلية او شركة تستورد ياميش رمضان او تستورد معدات لجمع قمامة القاهرة.
ولكن في وكالات الانباء تكون الثواني لها قيمة عندما تسبق وكالة وكالة اخرى منافسة في بث الخبر فما بالك بخبر يتم بثه بعد يوم او يومين. معنى ذلك ان جانبا كبيرا من اخبار الوكالة يكون قد عفى عليه الزمن عند نشره وهو امر قد يجعل مشتركيها ينصرفون عنها. ولكن لاشك ان الوكالة المذكورة بما اوتيت من عبقرية قادرة على جعله يبدو خبرا جديدا للغاية وذلك بوضعه في الفرن لدقائق.
هذا جانب من الجوانب الكوميدية في القضية. هناك جوانب اخرى مؤسفة جدا ستجعل القاريء يحتقر مصريته ويحتقر كونه مصريا وربما يحتقر ذاته. وهذه الجوانب حقيقة هي التي ستجعلني اشعر بالحزن وانا انشر الموضوع هنا بكل تفاصيله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق