يارا وسارة في فبراير 2006 |
سارا ابنتي الصغرى هي اول شخصية في الاسرة تكتب مذكراتها وهي اول شخصية تختتم شهادتها على العصر خلال اشهر قليلة. وكان الامر مفاجأة بالنسبة لي، فليس من المعتاد في اسرتنا ان يكتب احد مذكراته ولا حتى يرد ذكر للامر فليس في الاسرة شخصيات سياسية مبرزة ولا خطباء مفوهين او حتى أي شخصيات عامة يمكن ان يكون لمذكراتها قيمة حتى عند نفسها ناهيك عن ان تكون كذلك عند الاخرين، بحيث يسعون الى قراءتها.
والواقع ان سارة كانت دوما – وما زالت الى حد ما – تمثل مشكلة في تعليمها. فعندما بدأنا ندرس لها الحروف الهجائية قبل الالتحاق بالحضانة كانت تجلس امام الكراسة وتسترسل في ندب سوء حظها: "معقولة يا (سورسور) ها تكتبي كل دا. ازاي بنت صغيرة تكتب صفحة كلها ألف وصفحة كلها باء في يوم واحد". وظللنا نعمل معها على مضض لكي تعرف حتى الحروف الهجائية بالعربية والانجليزية وتعرف الارقام من 1 الى 10 قبل دخول الحضانة. ولكنها كانت تنسى بسرعة ويحتاج الامر الى البداية من جديد. وبدأت زوجتي تلمح من بعيد الى تأثير الوراثة وراحت تستجوبني كيف كانت اوضاعي الدراسية في الابتدائية. فقلت – عن صدق – ان المدرسين كانوا ياخذوني وانا في الصف الاول الابتدائي لاحل اسئلة لاطفال الصف الثاني والثالث الابتدائي وانني كنت دوما من الاوائل. واعلنت هي ان ذلك امر مستحيل التصديق لان اوضاعي الحالية لا تشير ابدا الى ذلك.
اكتوبر 2006 |
انقذتنا من الامر خالة سارة التي قالت اننا ليس لنا أي خبرة في التدريس ولا نعرف اصول التربية الحديثة أما هي بما توفر لها من اطلاع على اساليب التربية فيمكنها ان تحل مشاكل سارة بسهولة. وقالت دعوها لي انا اعرف كيف اعلمها. والواقع اننا تنفسنا الصعداء ورحبنا بالأمر. وقلت انا ان الامر سوف يستغرق اسبوع او اسبوعين على الاكثر قبل ان تعتذر عن المهمة الصعبة وتتنحى، ولكن لدهشتنا لم يحدث شيء من ذلك. بل ان سارة بدأت في كي.جي1 تقرأ اسماء المحلات في الشارع ولم نصدق انفسنا. وفي كي جي 2 دهشنا انها اصبحت تقرأ كتبها الدراسية بصورة طبيعية وان كانت في الانجليزية افضل من العربي والرياضة.
وفي الصيف التالي بعد ان انهت دراسة الصف الاول الابتدائي بدأت تكتب مذكراتها. والواقع ان مذكراتها ظلت سرية لا يعرف بها احد الى ان شهدت صراعا بينها وبين شقيقتها يارا التي تكبرها بعام وبضعة اشهر وتسبقها في الدراسة بعام – على شيء صغير لم اتبينه. كانت يارا تضحك في حين استماتت يدا سارة على الشيء الصغير وهي تقول لها "سيبي الكراسة". وتدخلت لفض النزاع وصادرت منهما اجندة صغيرة اقل من حجم نصف كف اليد، عثرت عليها بالصدفة مؤخرا في احدى حافظات الاسطوانات لدى. كانت يارا تضحك لانها اكتشفت اخطاء كثيرة في الكراسة الصغيرة التي عثرت عليها في درج سارة ولكن يبدو ان سارة لم تكن سعيدة حتى باكتشاف كراستها.
بدأت اتصفح الكراسة لاكتشف اغرب مذكرات قرأتها في حياتي لاصغر كاتبة مذكرات عرفتها.
وبدأت سارة الكتابة في كراستها الصغيرة من الشمال لليمين مثلما تكتب في كراسة اللغة الانجليزية ولكن يبدو انها لم تلتزم بذلك. ويبدو انها كانت تفتح الكراسة وتكتب دون ان تعبأ بترتيب الصفحات ويمكن ان تترك صفحات كثيرة خالية ويبدو انها كانت تفتح كراستها كيفما اتفق. وكل مذكرات سارا تقريبا تدور حول شئونها الخاصة وعروستها وعلاقتها بنا وبشقيقتها.
نوفمبر 2006 |
وهي عندما تقول اليوم لا يعرف القاريء أي يوم تقصد فليس هناك تاريخ لموقع هذا اليوم من العام او الشهر او حتى التاريخ الانساني كله ولا حتى تحديد لليوم ان كان يوم السبت او الاحد. انه أي يوم وكل يوم تقريبا. ولكنها حريصة جدا على كتابة عبارة (انتهت مذكرة سارة) في نهاية كل صفحة. واعتقد انها ربما كانت تقصد "مذكرات".
وتقول في احدى الصفحات:
اليوم ذهبت اختى
الى طبيب الاسنان
كانت خائفة أليست
هبلة جدن (جدا)
اصابت جرح في الدرس
وطقول (تقول) موئلم وهو
بسيت (بسيط)
انتهت مذكرة سارة
وتذكرني هذه الكتابة بكتابة نوسترادموس الكاهن الفرنسي في القرن الخامس عشر الذي يحتاج تفسير ما تركه لنا الى فك طلاسم صعبة.
يونيو 2012 |
وفي يوم اخر تقول عني ويبدو ان ذلك كان في رمضان وكانت سارة ويارا تجربان الصيام بضعة ايام في رمضان وكانت التجربة تسفر في ايام قليلة جدا عن الاستمرار الى المغرب.
اليوم كل شوية
بابا يئولي إلبت سارة
صامت صامت زعئتلو
بطل يئول كدة
انتهت مذكرة سارة
وتقول في صفحة اخرى :
اليوم حميت سنثية (عروستها)
معي كان هذا ممتعن
لقد إمتلأت سنثية
بصبون (بالصابون) وشطفتها
انتهت مذكرة سارة
وعندما تزورنا بنت الجيران الصغيرة مع جدتها تعمد سارة الى اخفاء كل لعبها تحت السرير او المقاعد ولا تترك منها ظاهرا الا اصغرها واقلها شأنا عندها. وتظل متوترة الى ان تذهب الضيفة الصغيرة وقد اخذت بعض لعبها غير الهامة ثم تقول بانتصار "خادت العروسة الى رجلها ضايعة. انا مش عاوزاها" ثم تشرع في اخراج لعبها من المخبأ.
وفي يوم اخر تعلق على ممتلكاتها قائلة
أنا عندي درجين
واحد مليان لعب
وواحد مليان كتب
والدرج الفي لعب بحب
الألعاب الفي درجي شوية
انتهت مذكرة سارة
النهاية
وكلمة النهاية هنا معناها انتهاء الكراسة فهذه اخر صفحة وقد عادت الى اعتبار الكتابة تبدأ من اليمين الى الشمال مرة اخرى.
وتقول تعليقا على دأبها على استخدام فرشاة الاسنان
اليوم طلع لأختي
دم في اسنانهة (اسنانها)
لأنهة لم تخسلهة (تغسلها)
جيدا (جيدا هنا بالالف) أنا كنت
أغخسلهة جيدا
انتهت مذكرة سارة
وتقول عن يوم العيد
اليوم عيد سعيد
إنة أجمل يوم في حياتي
كلمة اليوم ماما أعطتني
5 (كتبت بالانجليزية) جنية (جنية وليست جنيه)
وبابا أعطاني خمستان جنية
أنتهت مذكرة سارة
ويبدو انها شعرت ان كلمة (خمستان) هي الصحيحة لانها تبدو فصحى لعدم استعمالها كثيرا في العامية.
وفي احد الأيام تقول ويبدو ان هذا كان في بداية العام
الدراسي
اليوم اسعد يوم في حياتي
هتنزل المدرسة في سنة
تانية
إنتهت مذكرة سارة
ولم يعرف احد لماذا كتبت سارة مذكراتها ولا لماذا توقفت. ولكن من الواضح انها ربما رأت احدى الشخصيات الكرتونية التي تفعل ذلك فقلدتها. فهي تعيش في التلفزيون اكثر مما تعيش في الواقع وتتحدث العربية الفصحى كثيرا ولكنها لا تكتبها ليس لانها تقرأ او تحب القراءة بل لان الكثير من قنوات الكرتون العربية تقوم بترجمة الافلام الى اللغة العربية الفصحى وليس الى اللهجات المحلية وربما كانت هذه واحدة من حسناتها. وفي ايام الثورة استخدمت شعاراتها في رفض الطعام وفوجئنا بها تصيح "يسقط الرز والبسلة". وهي تحتاج الى مجهود كبير واحيانا استخدام الترهيب والترغيب والرشوة لكي تتناول طعامها.
في بداية العام الدراسي التالي اثناء شرائي للادوات المدرسية وكانت سارة ستبدأ دراستها في الصف الثاني الابتدائي اشتريت مذكرتين صغيرتين لهما غلاف فاخر واعطيت واحدة لسارة والاخرى ليارا وقلت لهما "اكتبوا مذكراتكم هنا" واخذتا مني المذكرتين دون ان تبديا اهتماما ورمقني سارة في صمت ووضعتها في مكتبها دون ان تبدي أي مشاعر.
وبدأت بعد بضعة ايام افتح درجيهما خلسة واطالع الاجندات الصغيرة. ولكنها كانت خالية من أي شيء. وفي يوم قلت لسارة "انت ليه ما تكتبيش مذكراتك ياسارة"؟.
فقالت في سخط: "انا باذاكر ومش فاضية للكلام الفاضي دا". رغم انها تخصص اكثر من 90 في المئة من الوقت اما للعب على الكمبيوتر او مشاهدة التلفزيون. وخلافا للاجيال على عهدنا لا يوجد لدى يارا وسارة رغبة في القراءة او اهتمام بالكتب واول ما يشغلهما في المجلة مثلا هو حل الاختلاف بين الاشكال وقراءة النكت والفوازير والكرتون والمرة الوحيدة الذي قرأت فيه سارة موضوعا عن كيفية ابعاد سمكة القرش عندما تقترب من شخص في المياه، جعلت منه امتحانا للاسرة كلها ولم تكن تبخل بمعلوماتها عندما يبدي لها الممتحن جهله. وحتى عندما اقرأ لهما قصة في مجلة مثلا يحتج الاثنان ويطالبان باستخدام اللهجة العامية "يابابا ما تقولش بالعربية قول باللغة بتاعتنا". واحاول ان اشرح لهما ان العامية مشتقة من العربية دون جدوى. وفي يوم قالت لي يارا وهي تتفرج على مسلسل كرتون كويتي اعتقد انه اسمه ام خماس او شيء من هذا القبيل "هما بيتكلموا صعيدي يابابا؟".
وبعد فترة صغيرة اختفت الاجندتين دون ان اعثر لهما على اثر فلم اسألهما عنهما مرة اخرى.
اما ان سارة توقفت تماما عن كتابة المذكرات فليس لانها شعرت انها انهت تسجيل شهادتها على العصر قبل ان تصل الى السابعة بل السبب هو انها وجدتني مهتما بالامر. وانا بالذات في حالة من العداء الشديد معها- على الاقل من جانبها. فرغم ان علاقتنا لا تخلو من بعض الدفء الموجود عادة بين الاباء واولادهم، الا ان تنافسنا انا من جانب وهي ويارا من جانب اخر على الاشياء المشتركة في المنزل يجعلها تقف مني على الدوام موقفا متشككا. فنحن في حالة صراع دائم تقريبا على الكمبيوتر والتلفزيون. فليس من حقي مثلا ان اتفرج على الجزيرة لان افلام الكرتون لها الاولوية. ونفس الامر ينطبق على الكمبيوتر. واحيانا اكون عائدا الى المنزل فاجدهما جالستان على الكمبيوتر وبمجرد ان ادخل الغرفة تعلنان في صوت واحد "مش ها نقوم".
وهما في العادة لا تجلسان الى الكمبيوتر لتعلم الانجليزية او أي شيء بل لتلعبان العاب غريبة مثل تسريح شعر البنات والباسهن او الطبخ بنقل ادوات المطبخ بالفارة او تأتيان بضفدعة تتقافز بين مستنقعات.
في البداية لم تكونا تعرفان في الانترنت سوى موقع اسمه starfall لتعليم الانجليزية
ووضعته في المفضلة وشرحت لهما كيف تصلان اليه. ولكنهما صادقتا بنات الجيران وهم اكبر منهما قليلا وعرفتا منهم كيف تفتحان جوجل وتكتبان العاب بنات او games . وحتى استطيع ان ابعدهما عن جهاز الكمبيوتر واستحوذ عليه لنفسي قليلا كنت اتعلل بانني احتاجه للعمل والعمل اهم من اللعب. ولكني الاحظ بعد قليل ان سارة تقترب من الجهاز وتحدق في الشاشة وتصيح في غضب: "هو المصري اليوم دا شغل؟ انت قلت نص ساعة بس". وانهض من على الجهاز لانقطاع الانترنت وتجلس هي مكاني ولكنها تفاجأ بالأمر فتصيح في غضب: "بابا خلص الانترنت كلها".
ويعود اهتمام سارة بالكراسة الصغيرة على ما ارجح الى انها كانت هدية من سلمى ابنة خالتها التي تكبرها بنحو ثلاثة اعوام والتي اعتادت سارة ان تلعب معها عندما تذهب الى بنها لاداء الامتحانات بعد ان نجحنا في نقل شقيقتها الى القاهرة وتعثر نقلها هي الى ان رفعنا دعوى امام محكمة القضاء الاداري. واذا ما ذهبت سارة الى بنها تتبناها سلمى وتتيح لها اللعب بكل العابها الى لحظات رحيلها الى القاهرة فتعطيها بعض الهدايا التي تسعد بها سارة اكثر من أي شيء اخر. وظلت تلبس خاتما كان هدية من سلمى الى ان عانينا في خلعه من اصبعها. وكانت الكراسة الصغيرة واحدة من هذه الهدايا وربما فكرت سارة في استخدامها على هذا النحو حبا لسلمى وليس اهتماما بكتابة مذكراتها.
وسارة ستلتحق بالصف الرابع في العام الدراسي القادم واثناء الانتخابات عبرت عن رغبتها في ان ننتخب انا وامها رئيسا يلغي الامتحانات كلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق