الصفحات

الخميس، يناير 19، 2012

مسرحية هبوط آمن



المصريون هم اكثر الناس صبرا في التاريخ وربما لم يوجد من هم اكثر استسلاما واستكانة منهم للحاكم. كانت هذه هي الافكار الشائعة عن المصريين وعزز منها تاريخ طويل من الخضوع للاستبداد سواء الاجنبي او الوطني وقلة عدد الانتفاضات والهزات الاجتماعية تبدو متباعدة ولا يربط بينها رابط سوى الحاجة الملحة لاشباع المطالب الآنية او استجابة للنوازع الدينية.

ونشأ جراء ذلك نوع من انعدام الثقة بالشعب بين النشطاء والمثقفين الذين ادركوا بالتجربة ان عدم وجود تغطية شعبية لاحتجاجهم يمثل فرصة ذهبية للنظام لكي ينكل بهم دون رحمة او هوادة. غير ان الاستكانة التي لا يمكن ان ننكر انها جزء من تكوين الشخصية المصرية ربما توارثته من اجيال، تعرضت للتآكل والتلاشي خلال السنوات الاخيرة من حكم مبارك بفعل الضغوط المعيشية القاسية بالنسبة للكثير من فئات الشعب التي كان يقابلها على الجانب الاخر نوع من الفساد الفاجر الذي اصبح يزكم الانوف من قبل النخبة الحاكمة ومن دار في فلكها.

 
غير ان نظام مبارك لم يكن يعبأ بالشعب فلديه اجهزة القمع القوية القادرة على تكميم الافواه وتكسير الرقاب وجعل الامور تبدو في الظاهر مستتبة. وبدا ان هناك سباقا مع الزمن لتوريث الحكم لنجله جمال وسخر كل شيء بما فيها مستقبل البلاد وتوجهها السياسي واقتصادها وعلاقاتها بالدول العربية والاجنبية لهذه الغاية النبيلة. وبدت الامور تمضي بصورة طبيعية في الاتجاه المنشود. وكانت انتخابات 2010 بمثابة التتويج لجهود حثيثة وتحركات غريبة طالما ركض النظام خلفها مستعينا ببعض المعتوهين من امثال احمد عز وغيره.


ولكن فجأة وقعت الكارثة وانهار حلم التوريث الذي حلق بعيدا في الافق على رؤوس من اطلقوه. وكان الامر في غاية البساطة فالنظام البشع الذي يقوم على القهر الامني للشعب اصبح مكشوفا بمجرد ان انهار الغطاء الامني الغاشم الذي صان بقاءه كل هذه السنوات بل وكان راعيا اساسيا لمشروع التوريث.


ومن الواضح ان الايام التي سبقت الاعلان الرسمي عن تنحي مبارك شهدت صراعا خفيا ومميتا بين اجنجة متباينة للنظام كانت ايذانا بانهياره. وكان احد اهم اسباب هذا الصراع محاولة خلع طنطاوي من منصبه وهو القرار الذي ابلغ به المشير قبل اعلانه فبادر مع المجلس العسكري الى اعلان خلع مبارك او تنحيته. وفي النهاية يمكننا ان نقول انه لولا الانشقاق بين جناحي المؤسسة الحاكمة العسكري والمدني فربما كانت الامور سارت في اتجاه مغاير تماما.


بعدها طبعا (وكما قلت في مارس 2011 في هذه المدونة وقبل ان ينتبه احد الى تكتيكات المجلس) سعى العسكر الى الاستيلاء على السلطة فعليا وان اعلنوا رسميا انهم بسبيلهم للتخلي عنها لصالح حكومة مدنية. ولكن كل تحركات المجلس لم تكن توحي ابدا بالصدق وكان اوضح دلالة على ذلك هو رفض تشكيل مجلس رئاسي واستبداله بعد ما يقارب العام تقريبا بمجلس استشاري غريب وتوصياته اكثر غرابة. فبدلا من ان يطالب المجلس الاستشاري مثلا بالغاء تعيين اعضاء في مجلس الشعب والغاء مجلس الشوري اذ بهم يطالبون بزيادة عدد الاعضاء المعينين.


ولما كان المجلس العسكري جزءا لا يتجزأ من نظام مبارك اضطر بحكم الظروف الى الخروج عليه لكي يهرب من مصيره او ربما مصير اسوأ ، فان شيئا لم يتغير في مصر الى الافضل لان المجلس ينتهج نفس الاساليب المباركية بل ويبدع فيها بصورة تجعل تكتيكات مبارك تبدو عتيقة اكل عليها الدهر وشرب الى جانب اساليب المجلس. ولكن اسوأ ما تتسم به الفترة الانتقالية التي يقودها العسكر – وهي احد الملامح البشعة الموروثة من نظام مبارك والذي يمتد ربما بطول التاريخ المصري - هو الاستهانة بالحياة البشرية. ومن الطبيعي ان عدم ايلاء حياة البشر الكثير من الاهتمام هي جزء راسخ من الثقافة السياسية العربية يعود الى غلبة النظم الاستبدادية داخل هذه الثقافة وغياب الفرد والقيم الفردية او تغييبها لصالح رسوخ النظام تحت قناع سلامة المجتمع وامنه واستقراره.


وابشع ما يفعله العسكر هو محاولة حماية النظام القديم بكل اركانه وحتى الاستعانة بافراد منه في فترة كان من المرجح فيها لدفع الشك، الابتعاد عنهم تماما. ولا احد يعرف حقيقة سبب ذلك هل هو لاحساسهم الحقيقي في النهاية بانهم جزء من هذا النظام وان كانت قد دفعتهم غريزة حب البقاء وحماية الذات الى الخروج عليه ام انهم مثلا يرون انه الافضل والاكثر كفاءة رغم ان نظاما لم يخرب مصر ولا دمرها كما فعل ذلك النظام.



وبعد ما يقارب العام على الثورة تقريبا لا يبدو ان حياة المصريين اجمل ولا افضل بل ان الاخطر ان كثيرين ينظرون الى ايام مبارك على انها كانت اكثر امنا واكثر استقرارا. صحيح ان مبارك كان هناك وطالما كان موجودا كان لدي الجمبع الامل في انه سيرحل يوما ما وستكون الاوضاع بعده افضل. ولكن الكارثة الان ان مبارك ذهب ولم تتحسن الاوضاع، وذلك لان مبارك الشخص فقط وليس مبارك النظام هو الذي ترجل.


بدأت كتابة هذه المسرحية بعد يوم واحد من ادلاء طنطاوي بشهادته في قضية قتل المتظاهرين والتي نشرت تسريبات عنها في نفس اليوم او في اليوم التالي تقريبا. وكان واضحا ان الشهادة محابية للغاية للرئيس المخلوع ولم تسع الى تجريمه، بصورة تجعلها تصنف بامتياز في خانة شهادة الزور ويمكن ان تمثل في المستقبل صفحة سوداء في تاريخ طنطاوي تضاف الى مجلده الضخم. والواقع ان كثيرين كانوا ينظرون الى شهادة طنطاوي على انها ستكون فاصلة في حسم مصير مبارك وربما تقوده الى حبل المشنقة ولكنها جاءت مخيبة للامال ومجافية لتصريحات سابقة من طنطاوي ومن اعضاء المجلس الاخرين.


كانت هذه هي الكتابة الاولى ووضعتها بصورة مؤقتة على الانترنت في 11 نوفمبر 2011 على ان يعاد كتابتها مرة اخرى قبل اول عيد للثورة. ولكن يبدو الان انني لن اعيد كتابتها مرة اخرى لفترة طويلة قادمة. بالطبع وقعت تطورات كثيرة بعد هذا التاريخ اكثرها يشير في اتجاه توحش العسكر مثل احداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء. والعسكر الذي قاموا بترتيب الهبوط الامن للنظام السابق يسعون الان الى الحصول على خروج آمن ولكن هل توافق القوى السياسية والشعب على ذلك؟. هذا هو الموضوع الاكثر اثارة خلال الاشهر القليلة المقبلة.


والواقع ان اعضاء المجلس العسكري وهم ما يطلق عليهم وصف "جنود محترفين" او career soldiers كان يمكن ان يظلوا في أمكانهم الى ان يتقاعدوا دون ان يدري بهم احد. ولكن عربة التاريخ توقفت أمامهم فجأة وأبت الا ان يركبوها. وكان يمكن للعسكر لو اداروا الفترة الانتقالية بسلاسة ودون محاولة الالتفاف على الثورة وحماية النظام الذين انسلخوا عنه ظاهريا، ان يدخلوا التاريخ من اوسع ابوابه ولكنهم للاسف لم يدركوا حجم الموقف الذي وضعوا فيه.


المسرحية بالطبع كوميدية وهي لا تتخذ بالمرة أي موقف انتقادي سواء من نظام مبارك او العسكر الذين اطاحوا به. أما عن سلوك العسكر في المسرحية وتباينه مع سلوكهم في الواقع وتحولهم الاخير للانحياز الحقيقي للثورة، فربما كانت هي النهاية الفنية المثلى، والفن لا يمكن ان يكون نسخة من الواقع او صورة ضوئية له.


وفكرة عودة مبارك للحكم بمساعدة من الخليجيين والامريكيين في الخارج والسلفيين في الداخل هي طبعا فكرة مستحيلة ولكن في نفس الوقت فان فكرة حصوله على البراءة بل وحصوله على تعويضات من المصريين لا تبدو من حيث الواقع – في ضوء الاجراءات القانونية ضد مجرمي الثورة كلهم بما فيهم افراد النظام السابق والشرطة وغيرهم – مستبعدة على الاطلاق. والصراع هنا يدور بين الرئيس مبارك الذي يحاول اعادة توطيد حكمه مستعينا بمعلومات يحتفظ بها ضد اعضاء المجلس موجودة على فلاشة كمبيوتر في حوزته، والمجلس العسكري الذي يخشى انقضاض مبارك عليه والانتقام منه لحمايته المزعومة للثورة. والشعب هو الطرف الضائع سواء في عهد مبارك الاول او عهد المجلس العسكري او عهد مبارك الثاني ولذا فانه يعلن يأسه من الاثنين ويتجه الى القاء نفسه في البحر.


والشعب بالنسبة لمبارك هو كتلة صماء يتعين وجودها كإحدى حواشي حكمه ومظاهر سلطانه وأداة للتفاخر بعدده أمام الحكام الاخرين وهو ليس معنيا بهوية هذا الشعب بل بعدده، اما فيما يتعلق بالمجلس فقد يكون الشعب عونا له في الصراع الذي يلوح في الافق مع مبارك ليس إلا. ولكنه بالنسبة للطرفين يبدو بعيدا تماما في الخلفية ووجوده هامشي وغير مؤثر.


والتعليم والقضاء هما اهم اسباب نهوض الامم. وبدون تعليم حديث ومبدع لن تنضم مصر الى مصاف الامام المتقدمة ولننظر الى كوريا الجنوبية والهند مثلا كأمثلة على دول العالم الثالث التي كانت هي ومصر في كفة واحدة منذ سنوات ليست بالكثيرة.اين هما الان؟ .


وتحقيق العدالة هي مهمة القضاء وبدون قضاء قوي ونزيه مجرد عن الهوى والتحيزات السياسية لا يمكن تحقيق العدالة ولا المساواة بين جميع المواطنين. ونحن في مصر اعتدنا ان نكيل الثناء للقضاء فنشيد بصرح مصر الشامخ ونزاهته وما اليها من الاكليشيهات الغريبة.


ولكن القضاء في مصر بحاجة الى اصلاحات كبيرة تراعي بالاخص استقلاله عن السلطة التنفيذية. ولننظر مثلا الى الخلاف الدائر بين القضاة والمحامين..انه صراع قبلي غريب لا تجده في مجتمع معاصر. ولو تابع هؤلاء ما حدث مع القاضي الباكستاني افتخار تشودوري رئيس المحكمة العليا في باكستان لعلمنا ان المحامين كانوا هم ابرز مؤيديه وهم القوة الرئيسية التي ضغطت من اجل اعادته الى منصبه كرئيس لقضاة المحكمة العليا في مارس 2009. وكان تشودوري قد اثار اهتمام الرأي العام داخل باكستان وخارجها بعد ان أقيل من منصبه في اواخر عام 2007 على يد الرئيس الباكستاني وقائد الجيش انذاك برويز مشرف الذي كان يشعر بالقلق من ان القاضي قد يثير نقطة عدم شرعية انتخابه لفترة رئاسية جديدة.


كذلك تلعب المحكمة العليا في اسرائيل دورا كبيرا في صياغة الكثير من القضايا السياسة الهامة بل والعسكرية ايضا. والقضاة في الدول الاخرى يلعبون دورا بارزا في السياسة الا في مصر فقد كان كاهن السياسة الاعظم فتحي سرور يسارع الى اتهام القضاة بالاشتغال بالسياسة كما لو كان الاشتغال بالسياسة جريمة، والغريب انهم كانوا يتنصلون من الاتهام ولا تجد بينهم من يرد عليه بان السياسة هي من صلب عملهم.


رابط المسرحية:







ليست هناك تعليقات: