تحتفل مصر هذه الأيام بما يسمى ثورة 30
يونيو حيث توجد في الكثير من الشوارع تهنئة للشعب بثورته المجيدة وعليها صورة
الزعيم الملهم عبد الفتاح السيسي وعنوان "عامان من الإنجازات". وهي في
الواقع لم تكن ثورة ولكن انقلابا عسكريا سافرا على حكومة منتخبة، بل أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. وسوف
تضحك علينا الأجيال المقبلة كثيرا كما يضحك علينا العالم الآن. وكلنا يتذكر بطبيعة
الحال عنوان المقال الساخر الذي كتبه روبرت فيسك في صحيفة "الاندبندنت"
يوم 4 يوليو 2013 عندما تساءل "متى لا يكون الانقلاب العسكري انقلابا عسكريا؟"،
وأجاب "عندما يحدث في مصر".
ولن تجد صحيفة أو مجلة في العالم
تحظى باحترام وصفت ما حدث في مصر بأنه ثورة ذلك لان كل من الثورة والانقلاب لهما
سمات وملامح مختلفة تماما بحيث يستحيل أن تطلق نفس المسميين على احدهما. ولكن في
مصر ساعدت النخبة في تضليل الشعب كله دون أي حساب للخسائر وهم الآن يعضون بنان
الندم، وينعون حالة الضياع التي وصلت إليها البلاد، ولكن في همس صامت لا يتجاوز
حلوقهم الجافة.
من المؤكد أن الكثير من أفراد هذه
النخبة قرأوا عن الانقلابات في أمريكا الوسطى والجنوبية وفي إفريقيا وفي تركيا
ويعرفون القاعدة التاريخية الثابتة التي لا يمكن لأحد أن يماري فيها وهي أن
الانقلابات العسكرية لا تؤدي إطلاقا الى تقدم الشعوب بل الى تأخرها وخسارتها
ومعاناتها وهو ما يعيشه المصريون الآن. ولكن المؤلم أن باب الخسائر يظل مشرعا
ونزيف الخسائر يظل مستمرا.
مصر بعد ثورة يناير 2011 كانت تسير
على طريق مختلف تماما، فهي دولة قامت بثورة على حكم ديكتاتوري شهد العالم كله حتى
اقرب حلفائه بأنه نظام سلطوي لا يتماشى على الإطلاق مع طموحات الشعب في العقد
الثاني من القرن الحادي والعشرين. كانت الشعوب المحبة للسلام سعيدة بالثورة
المصرية وأشادوا بالشباب المصري وسعوا الى تقليده.
كان لمصر صورة أخرى غير ما كانت عليه
في عهد مبارك وكان لدى الكثير من الدول التي ذاقت مرارة الحكم العسكري والانقلابات
التي أضاعت عقودا من حياتها وخلفت مآس ربما ظلت تعيش في ظلالها لعقود كثيرة، استعداد
لمساعدة مصر على تجاوز متاعبها الاقتصادية لان رأس المال يميل الى الدول الديمقراطية
المستقرة وربما يفسر ذلك أن غالبية استثمارات الصناديق السيادية العربية في الخليج
والتي تضم مبالغ طائلة تتجه الى الدول الغربية.
لقد تم استبدال مصر الديمقراطية التي
كانت تتطلع الى النمو بعد التخلص من حكم العسكر بمصر الزلنطحية والزلنطحي في اللغة
المصرية هو الشخص الفهلوي الأفاق المتبجح الذي لا يحمل أي من الصفات التي يفاخر بأنها
لديه. مصر الزلنطحية أسرت قائد الأسطول السادس الأمريكي عندما توجه هو وجحافله
لإجهاض ثورتها المجيدة وأسقطت عددا لا بأس به من الطائرات الأمريكية بدون طيار جاءت
للتجسس والتآمر على ثورة مصر، وتصدت بشجاعة منقطعة النظير لمشاريع أمريكا لتقسيم
المنطقة، بل أنها جعلت الأمريكان (على طريقة الفتوة في روايات نجيب محفوظ) يطفئون
الأنوار في واشنطن ونيويورك بمجرد حلول الظلام ويخلدون الى النوم.
ولو قارنا ما كان يمكن أن تكون عليه
مصر لو استمرت في ظل الحكم الديمقراطي بما هي عليه الآن في ظل حكم عسكري قمعي لأدركنا
الى أي مدى خسرت مصر وخسرنا نحن وخسرت الأجيال المقبلة.
حكومة مصر الديمقراطية كانت ستتخذ موقفا
تفاوضيا أقوى في موضوع السد العالي وكان يمكنها أن تهدد باستخدام القوة لحماية
المصالح الحيوية لشعبها باعتبار أنها النابعة منه والمعبرة عن إرادته، بدلا من
الوضع الحالي الذي تنازلت فيه عن حصتها واستسلمت للأمر الواقع مقابل الاعتراف
بقبول حكومة الانقلاب في الاتحاد الإفريقي وعدم تعليق عضويتها أي إننا اشترينا
شرعية للرئيس الانقلابي بمياه السد.
مصر القوية كانت ستوجه مواردها
الضئيلة للتنمية بدلا من رهنها لسداد قروض أسلحة ليست هي في حاجة إليها فلا هي
تخوض حربا ولا تدفع عن حدودها عدوا، ولكن هنا أيضا تبرز مسألة شراء الشرعية ولاسيما
في الحالة الفرنسية.
مصر الديمقراطية لم يكن رئيسها ليجرؤ
على إبرام عقد نووي بقرض يكاد يوازي في قيمته كل ديون مصر الخارجية ويكبل الأجيال
المقبلة ويلزمها بشروط مجحفة في حالة الفشل في السداد، وهو ما يفرض تساؤلات لاسيما
بعد إبرام عقد مع شركة سيمنز الألمانية (أيضا في إطار شراء الشرعية من ألمانيا)
لتوريد محطات طاقة وفي ظل المخاوف من الكوارث التي يمكن أن تسببها الطاقة النووية
خاصة وان المحطات الروسية يعد معدل الأمان بها اقل من نظيرتها الغربية.
مصر الديمقراطية كانت ستلجأ الى
التهدئة والدبلوماسية والتنمية في سيناء وتجنب نزيف الخسائر بدلا من استخدام الحرب
ضد الإرهاب كمسوغ لوجود النظام، وتجنب نزيف خسائرها الكبيرة بين أفراد الجيش
والشرطة.
مصر الديمقراطية كانت محط إعجاب
العالم بثورتها وشبابها فأصبحت الآن موضع تدقيق العالم كله حيث يفحصون عدد سجنائها
وعدد القتلى في أماكن الاحتجاز وشبابها الذين يزج بهم ليلا ونهارا في السجون، ويدرسون
ما إذا كان يجوز إرسال سياح إليها من عدمه وما إذا كانت حياة الزائر مأمونة فيها.
مصر الديمقراطية ما كانت ستضطر الى حفر
قناة تكلفت مليارات ولم تأت بأي عائد اقتصادي (لمجرد رفع معنويات الشعب) ولا الى
التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير وهما مشروعان
تحيط بهما الكثير من علامات الاستفهام حيث قد لا يقتصر معناهما والهدف منهما على
مبرراتهما الظاهرية بل يمتد الى ما هو ابعد وأعمق، الى المجال الاستراتيجي في المستقبل.
مصر الأخرى التي فرضها الانقلاب تشبه
سيدة فقيرة تحاول إلهاء أطفالها بأن الطعام يطهى على النار بينما لا يوجد في القدر
سوى الأحجار، الى أن يدخل الأطفال في النوم. مصر الزلنطحية هي التي لا تذكرها
الصحف العالمية إلا كمركز قمع يكاد يتفوق على كوريا الشمالية. مصر الزلنطحية تبدأ
مشاريع وتروج لأخرى وتخفي مشاريع ثالثة خوفا من أهل الشر ولكن حالة المواطن تسوء
كل يوم وكل يوم ينخفض مستوى معاشه وهو يتطلع الى ظهور المشاريع المختفية. مصر التي
وعد رئيسها بعد الانقلاب على الشرعية بان يجعلها "أد الدنيا" ثم لم يلبث
أن أعلن أنها ليست سوى "شبه دولة" حصلت من قادة الخليج الذين أرادوا وأد
ثورة شعبها، لكي يستمتعوا أكثر فترة ممكنة بالثروة والسلطة في بلادهم، على أموال
لم تحصل عليها في تاريخها في فترة زمنية قصيرة كهذه، ولكن لم تظهر لها أي ثمار على
الأرض حيث ذهبت للقوى التي تدعم الانقلاب كثمن للاستمرار في ولائها له.
مصر أضاعت فرصتها في أن تصبح دولة
وربما تظل شبه دولة لعقود كثيرة قادمة أن لم تنحدر الى ما هو دون شبه الدولة.