الصفحات

الأحد، يونيو 12، 2016

هل يجوز لنا أن نقرأ مستقبل مصر في ماضي جواتيمالا وحاضرها؟.

 

  


يقول الفيلسوف الألماني هيجل "إن أهم ما نتعلمه من التاريخ هو أن أحدا لا يتعلم من التاريخ شيئا"، ويقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "ليس الأمر أن الأمم في الغالب لا تتعلم من الماضي، بل من النادر أن تخرج بالاستنتاجات الصحيحة منه". غير أن بعض أحداث التاريخ قد تتشابه مع بعضها البعض الى درجة كبيرة - ليس بالطبع الى حد القول بان التاريخ يكرر نفسه - ولكن من حيث تكرار النمط مع بعض المتغيرات. ويبدو الانقلاب العسكري في مصر عام 2013 قريب الشبه الى حد  كبير بانقلاب جواتيمالا في عام 1954 رغم البعد الزمني والجغرافي بين الدولتين حيث تبعد الدولة الواقعة في أميركا الوسطى أكثر من 7500 ميل عن الدولة الأفريقية كما يفصل بين الانقلابين 59 عاما.

جاء انقلاب جواتيمالا بعد ثورة أعقبتها انتخابات ديمقراطية لأول مرة في تاريخ البلاد منذ انتهاء الاستعمار الأسباني كما لعبت الدعاية الزائفة دورا ضخما فيه بحيث تم تصوير الحكم الديمقراطي الوطني الذي يسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية على انه حكم بشع سيورد البلاد موارد التهلكة، كما تم تقديم الخطوات التي اتخذتها الثورة باتجاه العدالة الاجتماعية على أنها نوع من الأخطاء الفادحة والديكتاتورية الشيوعية.
 
الشبان الثلاثة الذين قادوا الثورة 
وقبل الثورة الشعبية التي أطاحت بالديكتاتور العسكري خورخي أوبيكو في عام 1944، كانت جواتيمالا خاضعة لحكم سلطوي منذ حققت استقلالها عن أسبانيا في عام 1821، وفتحت ثورة أكتوبر 1944 الباب للمرة الأولى أمام الديمقراطية في جواتيمالا التي ازدهرت في البلاد وحملت مستقبلا واعدا للفئات الأضعف في المجتمع، غير أن الربيع الذي استمر عشر سنوات انتهى عندما أطاح انقلاب دبرته أمريكا بالرئيس المنتخب ديمقراطيا جاكوبو أربينز.

وبعد ثورة أكتوبر كان خوان خوسيه أريفالو أستاذ الفلسفة السابق بالجامعة هو أول رئيس لجواتيمالا يصل الى السلطة عن طريق عملية سياسية ديمقراطية وحصل على 85 في المائة من أصوات الناخبين. كان أريفالو ديمقراطيا اشتراكيا يؤمن بأن الحكومة يجب أن تلعب دورا يتسم بالمبادرة في تصحيح الظلم الاجتماعي. وبعد توليه السلطة بدأ برامج إصلاحات طموحة للغاية مثل برامج الصحة العامة الجماعية وبرامج محو الأمية وإصلاحات الأراضي لتحسين أوضاع الجواتيماليين الذين أفقروا أثناء ديكتاتورية أوبيكو. وفي عام 1947 وضع أريفالو قانونا مثيرا للجدل كان الهدف منه ضمان الحقوق الأساسية للعمال.

وأصبح أربينز هو ثاني رئيس لجواتيمالا في عهدها الديمقراطي الجديد حيث وصل الى السلطة من خلال الفوز في انتخابات نزيهة وديمقراطية في عام 1950، وكان توليه السلطة في البلاد خلفا لأريفالو هو أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ جواتيمالا. وواصل أربينز العمل على غالبية البرامج الإصلاحية التي بدأها سلفه. غير أن أكثر برامج أربينز طموحا وهو استكمال الإصلاح الزراعي الذي بدأه أريفالو، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير حيث اصطدم بالإدارة الأمريكية. كان المرسوم 900 الذي يطالب بإعادة توزيع أراضي البلاد هو ابرز الأسباب التي أدت الى الإطاحة به من الحكم. ويختلف الباحثون حول الأسباب المباشرة في التحرك الأمريكي هل هي الأسباب الأمنية أم الأسباب الاقتصادية الإمبريالية، والواقع أن الجانبين كانا مرتبطين ببعضهما البعض بحيث يصعب الفصل بينهما.
 
تسليم السلطة من اريفالو (الى اليسار) الى اربينز في عام 1951
كان من أكثر المتضررين من قانون الإصلاح الزراعي في البلاد شركة الفواكه المتحدة (يونايتد فروت) الأمريكية وكبار ملاك الأراضي حيث كان 70 في المائة من الأراضي الزراعية في البلاد يمتلكها 2.2 في المائة فقط من السكان. وانتزع أربينز أراض من كبار الملاك وبدأ توزيعها على السكان المعدمين. وحتى تنازل هو عن ارض مملوكة له في إطار تنفيذ المرسوم. ورغم انه لم يكن ينتمي الى أسرة من الملاك إلا انه بفضل دوطة زوجته السلفادورية الثرية أصبح من ملاك الأراضي. وفي فبراير  من عام 1953 صادر أربنيز 40 في المائة من أراضي شركة يونايتد فروت التي كانت تمتلك أراض شاسعة في جواتيمالا ودول أمريكا الوسطى الأخرى وتمثل أبشع أنواع الاستعمار الاقتصادي حيث كانت تكاد تستحوذ على تجارة الفواكه الاستوائية ولاسيما الموز الذي تصدره إلى أمريكا وأوروبا.

كانت الشركة بمثابة دولة داخل الدولة في جواتيمالا فقد كانت تمتلك مرافق البرق والبريد والهاتف وتدير الميناء الوحيد للبلاد على الاطلسي وتحتكر تصدير الموز. وكانت شركة تابعة لها تمتلك كل السكك الحديدية في البلاد ومرافق توليد الطاقة، ولم تكن هناك شركة مرتبطة بالإدارة الأمريكية في واشنطن أكثر من يونايتد فروت، فقد كان جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي شريكا في مكتب المحاماة الذي يمثل الشركة وكان هو شخصيا الذي تفاوض مع الديكتاتور أوبيكو في عام 1936 لحصول الشركة على مساحات شاسعة من الأراضي بأسعار زهيدة للغاية من خلال عقد إيجار لمدة 99 عاما. وأعفيت الشركة من دفع أي ضرائب خلال مدة الإيجار. وكانت تستحوذ قبل الانقلاب على مساحات هائلة في بلاد يموت الناس فيها جوعا بسبب الافتقار الى الأرض، ولم تكن الشركة تزرع منها إلا مساحة 15 في المائة، وكان ألن فوستر دالاس شقيقه ومدير وكالة المخابرات المركزية محاميا بالمكتب في الثلاثينيات وكان الرجلان يملكان أسهما في الشركة. وكان وولتر بيدل وكيل وزارة الخارجية في حكومة الرئيس ايزنهاور ومدير وكالة المخابرات المركزية السابق يسعى للحصول على موقع تنفيذي في الشركة أثناء تخطيطه للانقلاب وهو ما تحقق بعد تركه وزارة الخارجية. وكانت آن ويتمان السكرتيرة الشخصية لايزنهاور متزوجة من أدموند ويتمان مسؤول الإعلانات والعلاقات العامة بالشركة، وكان جون مور كابوت مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمريكتين يمتلك أسهما في الشركة كما كان شقيقه توماس دادلي كابوت مدير العلاقات الأمنية الدولية في وزارة الخارجية رئيسا سابقا للشركة. كذلك كان الجنرال روبرت كتلر أول مستشار للأمن القومي الأمريكي رئيسا سابقا للشركة، وكان توماس كوركوران الذي لعب دورا كبيرا في إقناع المسؤولين بالانقلاب يعمل مستشارا للشركة بأجر أثناء عمله في وكالة المخابرات المركزية، وكان جون جاي ماكلوي رئيس البنك الدولي يمتلك
أسهما في الشركة.
 
جيفارا وكاسترو
في صيف عام 1953 قررت الإدارة الأمريكية أن تقوم بعملية سرية للإطاحة بأربينز، وبدأت العملية بدعم جماعة من المتمردين من أبناء جواتيمالا في هندوراس بقيادة كولونيل سابق منشق عن جيش جواتيمالا اسمه كارلوس كاستيو أرماس. كان أرماس قد قام بشن هجوم على قاعدة عسكرية على أمل الإطاحة بالحكومة قبل أيام من الانتخابات التي فاز بها أربينز. وسحقت القوات الحكومية المتمردين وتركت المعركة أرماس جريحا حتى ظن آسروه انه قتل وبدأوا في جره باتجاه مقبرة لولا انه اظهر مؤشرات على الحياة فنقل الى مستشفى عسكري وبعد تعافيه ألقى به في السجن، للمرة الثانية في حياته. وكانت المرة الأولى في العام السابق عندما سعى الى جمع أسلحة بطريقة غير قانونية للقيام بانقلاب. وفر من السجن الى هندوراس ليعود لغزو البلاد في 17 يونيو 1954 ومعه بضع مئات من المزارعين أطلق عليهم اسم جيش التحرير وبدعم لوجستي من وكالة المخابرات الأمريكية.

وأعطى البيت الأبيض لوكالة المخابرات أذنا بشن حرب علنية ضد جواتيمالا. وبدأت طائرات أمريكية لا تحمل علامات يقودها مرتزقة أمريكيون تقصف المواني والمواقع العسكرية والمطارات والمدارس والقرى في جواتيمالا، كما أغرقت سفينة بريطانية للاعتقاد بأنها تنقل نفط لجيش أربينز ولكن أتضح فيما بعد أنها توجهت الى هناك لنقل شحنة من البن والقطن.

وزعمت شركة الفواكه أن نظام أربينز وحشي وقمعي ونشرت صور مفبركة لجثث مشوهة في مقابر جماعية على أنها من أعمال أربينز.

وطلب الجيش الجواتيمالي من أربينز إبعاد كل الشيوعيين من إدارته ولكنه قال إنهم لا يمثلون تهديدا. ووضعت وكالة المخابرات المركزية مبلغا ضخما في حسابه في سويسرا لإغرائه بالاستقالة أو لاستخدامه بعد ذلك في تشويه سمعته ولكنه رفض الإغراء.

وضغط كبار الضباط على أربينز وخيروه بين الاستقالة أو قيامهم بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية. ولما بدا الانقلاب متعثرا في مراحله الأولى قامت المخابرات المركزية برشوة كبار الضباط ليتخلوا عن أربينز حتى إن احدهم حصل على 60 ألف دولار لكي يترك موقع قيادته.

ولعب مسؤولو وكالة المخابرات المركزية بالتعاون مع فريق العلاقات العامة في الشركة دورا كبيرا في فبركة الأدلة بوجود "تهديد شيوعي" في جواتيمالا. وبدأ الأمريكيون في إسقاط منشورات على سكان جواتيمالا من الطائرات وكذلك مئات الدمى لمظليين لإقناع السكان بأنهم يتعرضون لغزو أمريكي وشيك. كذلك قامت المخابرات المركزية بالتشويش على محطات الإذاعة الحكومية وأقامت محطة "صوت التحرير" التي كانت تتحدث باسم قوات الانقلاب وتبث بيانات كاذبة عن الشيوعيين وأربينز وتدعو السكان الى الانتفاض ضده.

صحيح أن أربينز سمح للأحزاب السياسية ومنها الحزب الشيوعي بالعمل واتخذ من الشيوعيين بعض مستشاريه ولكن البرلمان لم يكن به سوى أربعة شيوعيين من بين 51 عضوا ولم يكن لجواتيمالا علاقات بالاتحاد السوفييتي ولا حتى له سفارة في جواتيمالا سيتي العاصمة. ولكن وزير الخارجية جون فوستر دالاس زعم أن الجواتيماليين يعيشون في ظل "إرهاب من النوع الشيوعي" وصور ايزنهاور حكومة جواتيمالا على أنها "ديكتاتورية شيوعية". وقال السفير الأمريكي في جواتيمالا جون إميل بيريفوي "لا يمكننا أن نسمح بإقامة جمهورية شيوعية بين تكساس وقناة بنما".

لم يكن جيش التحرير المهلهل المكون من بضع مئات يمثل خطرا كبيرا ولكن تخاذل كبار قادة الجيش وقصف الطائرات الأمريكية جعل أربينز يشعر باليأس ويتخلى عن المقاومة. وفي 27 يونيو وجه كلمة مؤثرة للشعب عبر الإذاعة ثم توجه الى سفارة المكسيك في بلاده.
  
وبعد الإطاحة بأربينز نصبت الولايات المتحدة أرماس رئيسا للبلاد ووصفته صحفها "بالمحرر"، مثلما وصفت وسائل الإعلام المصرية عبدالفتاح السيسي "بالمنقذ" ووزعت في مصر مئات آلاف من بطاقته الشخصية التي حملت هذا الوصف في خانة المهنة، على ما يبدو في حملة منسقة من قبل الأجهزة الأمنية.  


ولعب التضليل الإعلامي دوره في الانقلاب فقد كتبت نيويورك تايمز التي كانت تعكس وجهة النظر المهيمنة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونجرس "المضايقات المستمرة التي تتعرض لها الشركة (يونايتد فروت) هنا (في جواتيمالا) هي الى حد كبير تكتيك شيوعي". وعاملت الصحافة الأمريكية الإطاحة بأربينز على أنها شأن داخلي وصدق الجمهور الأمريكي أن مواطني جواتيمالا انتفضوا ضد نظام أربينز الموالي للشيوعيين.

لقد رسخت وسائل الإعلام الأمريكية فكرة أن أرماس وأتباعه يمثلون ثورة شعبية ضد ديكتاتورية عسكرية. وقال مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمريكتين هنري فنش هولاند على سبيل المثال "ثار شعب جواتيمالا وفرق المجموعة القليلة من الخونة الذين حاولوا تخريب حكومتهم وتحويلها الى حكومة تابعة للشيوعية".

واحتفل أرماس بتحرير جواتيمالا بعدة طرق. ففي يوليو وحده اعتقل الآلاف لمجرد الاشتباه في قيامهم بأنشطة شيوعية وقتل وعذب أكثر من هذا العدد. وفي أغسطس تم وضع قانون وتشكيل لجنة يمكنها أن تعلن أن أي شخص شيوعي، وليس له الحق في الاستئناف ضد قرارها، وهو ما يستتبع إمكانية اعتقاله لمدة تصل الى ستة اشهر ولا يمكنه حيازة جهاز راديو أو تولي منصب عام. وخلال أربعة اشهر سجلت اللجنة 72 ألف اسم. وقال مسؤول باللجنة إنها تهدف الى زيادة العدد الى 200 ألف. وتوقف تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وأعلن أن كل ما تم توزيعه من أراض غير قانوني. ولم تستعد شركة يوناتيد فروت أرضها فحسب، ولكن الحكومة حظرت كل نقابات عمال الموز. وعلاوة على ذلك عثر على سبعة من عمال الشركة الذين كانوا نشطين في تنظيم العمال قتلى بصورة غامضة في جواتيمالا سيتي. كذلك ألغى النظام الجديد حق ثلثي الناخبين في التصويت بشطب الأميين من جداول الانتخابات كما حظر الأحزاب السياسية ونقابات العمال وتنظيمات المزارعين، وحظرت الصحف المعارضة أيضا كما تم إحراق الكتب التي اعتبرت "هدامة" مثل البؤساء لفيكتور هوجو وروايات دوستويفسكي وأعمال ميخيل أنخيل أستورياس الكاتب الجواتيمالي الحاصل على جائزة نوبل في الآداب والذي كان شديد الانتقاد لشركة يونايتد فروت.

وفي صورة تعيد الى الأذهان وعود الانقلاب المصري وما رافقه من دعاية ضخمة كانت تقوم بها وسائل الإعلام لإقناع الناس أن الانقضاض على الديمقراطية في صالحهم، زار ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي جواتيمالا عام 1955 معلنا "إن هدف الرئيس كاستيو أرماس (بان يقدم للشعب خلال عامين أكثر مما تمكن الشيوعيون من تقديمه خلال عشرة أعوام) هو أمر هام. هذا هو المثال الأول في التاريخ الذي تحل فيه حكومة حرة محل حكومة شيوعية"، وهو ما يستدعي للذاكرة تصريح جون كيري وزير الخارجية الأمريكي في باكستان في أغسطس 2013 بان تحرك الجيش المصري للإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي هو "استعادة للديمقراطية".  أما مزاعم النظام الجديد في مصر بان مصر ستصبح "أد الدنيا" وتصوير الانقلاب – على عكس الواقع المعاش حاليا - بأنه فتح جديد في حياة المصريين فهو أمر يلمسه الجميع.  

في عام زيارة نيكسون ألغى أرماس انتخابات الرئاسة وسمح لأعضاء حزبه فقط بخوض انتخابات البرلمان وفي عام 1956 فرض دستورا جديدا وعين نفسه رئيسا للبلاد وعادت جواتيمالا مرة أخرى للدوران في فلك الولايات المتحدة.

قتل أرماس على يد احد أفراد حرسه عندما أمطره بوابل من الرصاص في يوليو 1957 أثناء توجهه من مكتبه الى قاعة الطعام في قصر الرئاسة ثم ما لبث القاتل أن انتحر ولم يعرف ما إذا كان قد فعل ذلك بمبادرة شخصية أم انه كان جزءا من مؤامرة، وعلى أي حال لم يحفل أبناء جواتيمالا ولا أبناء العام سام بإجراء تحقيق جاد في الأمر.

كانت الإطاحة بأربينز هي بداية ما يقارب أربعة عقود من الحكم العسكري اليميني والحرب الأهلية. كان الكثير من أبناء جواتيمالا غاضبين من الانقلاب وبعد أن بات واضحا أن الديمقراطية لن تعود الى بلادهم ثانية، تحول بعضهم الى الثورة. في عام 1960 سيطرت مجموعات من الجنود وصغار الضباط على ثكنتين متوسطتين في انتفاضة منسقة، ولكن القوات الحكومية أخمدتها بسرعة، مما دفع بعض الضباط المتمردين الى اللجوء الى الجبال والانضمام الى المزارعين لتبدأ حرب عصابات ضد الجيش. وتشكلت جماعات يسارية في الستينيات وقويت أثناء السبعينيات ثم اتحدت تحت مظلة الاتحاد الوطني الثوري في جواتيمالا في عام 1982.  وبلغ العنف ذروته في الثمانينات على يد الجنرالين روميو لوكاس غارسيا وإيفرين ريوس مونت حيث اتبعا سياسة الأرض المحروقة والتي كانت موجهة الى حد كبير ضد السكان المحليين من هنود المايا في المناطق الريفية. ولمواجهة هذه التهديدات استخدم الجيش الجواتيمالي تكتيكات وحشية أوقفت كل صور الحياة السياسية في البلاد. وسقطت البلاد في آتون حرب أهلية استمرت 36 عاما وكانت واحدة من أطول وأبشع صراعات الحرب الباردة في أمريكا اللاتينية. وجابت فرق الموت الأرض لتطارد وتقتل السياسيين ومنظمي النقابات والطلبة والنشطاء، وخطف الكثير من الناس ولم يظهروا ثانية أبدا، وعاث الجنود فسادا في القرى حيث راحوا يقتلون هنود المايا بالمئات، ووفقا لما يورده تقرير لجنة الحقيقة التي رعتها الأمم المتحدة في عام 1999، كانت الدولة ترد على التمرد المسلح وعلى الحركات المدنية بقمع لا يمكن تصوره، وهو القمع الذي وصل الى الذروة في عامي 1981 و1982 بحمام الدم الذي ارتكب فيه الجيش أكثر من 600 مذبحة، ودمر 626 قرية كما أدى الى نزوح مئات الآلاف في الداخل والخارج.

وبين عامي 1960 و1990 قدمت أمريكا لجواتيمالا مئات الملايين من الدولارات من المعونة العسكرية. وقام الأمريكيون بتدريب وتسليح الجيش والشرطة في البلاد كما أرسلوا فرقا من القوات الخاصة الأمريكية لمرافقة الجنود في مهام قتال الجماعات المسلحة وأرسلوا بالطائرات من منطقة قناة بنما لإسقاط النابالم على مخابيء المسلحين. في عام 1968 ردت الجماعات المسلحة بقتل مستشارين عسكريين أمريكيين اثنين والسفير الأمريكي في جواتيمالا جون غوردون مين.

بعد أربعة عقود من الانقلاب كلفت وكالة المخابرات المركزية مؤرخا مستقلا هو نيكولاس كولاثير بفحص الوثائق السرية الخاصة بعملية "النجاح" وهو اسم العملية المخابراتية التي أطاحت بأربينز وكتابة تقرير واف عنها. وبعد مراجعة كاملة استنتج كولاثير أن الولايات المتحدة أطاحت بحكومة دولة لا تعرف شيئا عنها تقريبا. 
وقال في تقريره "المسؤولون (الأمريكيون) كانت لديهم فكرة مبهمة عما حدث في جواتيمالا قبل مجيء جاكوبو أربينز إلي السلطة في عام 1950"

كذلك كتب جيرالد هاينز كبير مؤرخي وكالة المخابرات تقريرا منفصلا عن مؤامرات الوكالة التي كانت مقترحة لاغتيال رموز نظام أربينز وهي الخطة التي تم التخلي عنها. وظل التقريران ممنوعين من النشر حتى عام 1997 عندما قررت الوكالة نشرهما كجزء مما تسميه سياسية الانفتاح الجديدة.

وقال كولاثير في تقريره إن وكالة المخابرات وليست الشركة هي التي وجهت وزارة الخارجية الأمريكية الى الاهتمام بجواتيمالا. وقال إن محللي الوكالة كانوا قلقين، ليس لان الحزب الشيوعي في جواتيمالا سيستولى على السلطة في الحال، بل لان الإصلاح الزراعي يوفر للشيوعيين فرصة غير مسبوقة لتنظيم الجماهير.

وتشير الوكالة الى أسباب اختيارها لأرماس وتفضيله على شخصين كانا يتنافسان لقيادة جيش التحرير هما ميجيل إيديجورس فوينتس وخوان كوردوفا سيرنا. وقال كولاثير إن القائمين على العملية تجاهلوا إيديجورس (الذي أصبح رئيسا لجواتيمالا بعد ذلك)  لأنهم نظروا الى الجنرال على انه "طموح وانتهازي وليس لديه هواجس أخلاقية". كذلك استبعدوا كوردوفا سيرنا من القائمة لأنه عمل كمستشار قانوني لشركة يوناتيد فروت، وهو ما قد يضفى مصداقية على الاتهامات بإمبريالية الموز. أما أرماس على عكس المرشحين الآخرين، فقد بدا أكثر براءة وسهل الانقياد ومطيعا، وخلافا لمعاداته للشيوعية لم تكن لديه أي فلسفة سياسية واضحة ولذا يمكن أن يطلب منه ما يراد تنفيذه.

وينضم كولاثير إلى العديد من المحللين في نظرتهم إلى أن سقوط أربينز يعزى إلى انعدام الولاء بين كبار قادة جيشه. ولو كانت قيادة الجيش اختارت القتال بجدية لسحق جيش أرماس المهلهل. ولكن كبار القادة فضلوا التخلي عن أربينز لأنهم خشوا أن يؤدي إحباط العملية الأمريكية الى تدخل أمريكي عسكري أكبر. ويري بعض المؤرخين أن العديد من ضباط الجيش كانوا يشعرون بالقلق من قانون الإصلاح الزراعي لأسباب شخصية وإيديولوجية.

والجدل بين المؤرخين حول انقلاب جواتيمالا لا ينتهي سواء من ناحية ظهور وثائق جديدة أو إعادة قراءة أحداث سابقة قراءة جديدة. ولكن هناك إجماع بين الباحثين انه لولا التدخل الأمريكي للقضاء على الديمقراطية في جواتيمالا مهما كانت الذرائع والأسباب، لما كانت البلاد دخلت في آتون الحرب الأهلية التي قضت على الأخضر واليابس وأودت بحياة ما يزيد على ربع مليون شخص.

غير أن الانقلاب في جواتيمالا كان له تأثيره الكبير على ثورة كوبا التي جاءت بعد ذلك بسنوات. وخلال حكم أربينز اجتذبت جواتيمالا الكثير من أبناء أمريكا اللاتينية اليساريين وكان من بينهم الطبيب الشاب تشي جيفارا الذي جاء الى جواتيمالا في 1953 حيث جذبه مناخ الإصلاح الاجتماعي فيها، وكان يتعيش من بيع الكتب والمجلات. وعندما بدأت الغارات الجوية تطوع للذهاب الى الجبهة، كما سعى الى إثارة المقاومة المسلحة ولكن دون نجاح. بعد الانقلاب توجه الى سفارة الأرجنتين ومنها الى مكسيكو سيتي حيث التقى بفيدل كاسترو وناقشا ما حدث في جواتيمالا باستفاضة. والدرس الذي خرج به ثوار كوبا من عملية "النجاح" هو أن الولايات المتحدة لن تقبل بالديمقراطية الوطنية في أمريكا اللاتينية. وأعطاهم هذا دفعة قوية نحو الراديكالية وقرروا أنهم بمجرد أن يصلوا الى السلطة فلن يعملوا مع المؤسسات القائمة كما فعل أربينز. وبدلا من ذلك فسوف يقومون بإلغاء الجيش وإغلاق البرلمان والقضاء على طبقة ملاك الأراضي وطرد الشركات الأجنبية. وتقول هيلدا جاديا زوجة جيفارا الأولى "كانت جواتيمالا هي التي أقنعته في نهاية المطاف بضرورة الكفاح المسلح وأخذ زمام المبادرة ضد الإمبريالية".

انتهت الحرب في جواتيمالا في عام 1999 بمحادثات سلام بين حكومة جواتيمالا وجماعات المعارضة المسلحة برعاية الأمم المتحدة وزار الرئيس الأمريكي الاسبق بيل كلينتون جواتيمالا في عام 1999 وقال فيما يشبه الاعتذار إن أمريكا أخطأت بدعمها للانقلاب على حكومة أربينز.

وفي مايو 2013 وقبل الانقلاب المصري بشهرين حكمت محكمة في جواتيمالا على  ريوس مونت الذي جاء إلى السلطة بانقلاب في عام 1982 وحكم البلاد 17 شهرا كانت هي الفترة الأكثر دموية في الحرب الأهلية، بالسجن ثمانين عاما في جرائم الابادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية. ومازال القضاء يتداول قضية الرجل البالغ من العمر 89 عاما بعد أن ألغت المحكمة الدستورية الحكم بحجة انعدام الأهلية العقلية لتقدمه في العمر، وبدأت محاكمته من جديد في مايو 2016. وطالبت المحكمة في نفس العام الحكومة بضرورة الاعتذار للسكان الأصليين عما حاق بهم من ظلم ودعت إلى اعتبار يوم 23 مارس يوما وطنيا ضد الإبادة الجماعية كما طالبت بإقامة نصب تذكارية ومتاحف للضحايا وإنشاء كليات دائمة لتدريس حقوق الإنسان في الشرطة والجيش.

توفى أربينز في المنفى في المكسيك في عام 1971 في الثامنة والخمسين من عمره في ظروف غامضة حيث عثر عليه ميتا في حوض الاستحمام بشقته في مدينة مكسيكو سيتي. واعتذرت حكومة جواتيمالا لأسرته في أكتوبر 2013 عن الأحداث التي وقعت منذ 57 عاما كما قدمت لهم تعويضات مالية، ولكن هل أدت كل هذه التحركات إلى إصلاح الأوضاع ومداواة الجروح التي تركتها الحرب الأهلية.

 مثلها مثل كل الدول التي تعرضت لانقلابات دموية في أميركا الجنوبية والوسطى وغيرها، شكلت في جواتيمالا لجنة للحقيقة والمصالحة، ولكن الاختفاء القسري والقتل والصراع الدموي والمقابر الجماعية يظل شبحها قائما لعقود. وإذا كانت بعض هذه الدول قطعت شوطا طويلا على طريق التنمية وحققت نجاحا اقتصاديا مثل شيلي والأرجنتين والبرازيل، فان الآثار الاجتماعية للماضي تظل قائمة لأجيال. 

وجواتيمالا التي تعني بإحدى اللهجات المحلية "ارض الأشجار" مازالت تعاني من متاعب اقتصادية كبيرة إضافة إلى جراحها الغائرة التي لا تكفي الاعتذارات والنصب التذكارية لمداواتها، وهي واحدة من الدول القليلة في المنطقة التي زاد فيها الفقر خلال السنوات الأخيرة، من 51 في المائة في عام 2006 الى 59.3 في المائة في عام 2014.  ورغم أن البلاد حققت نموا اقتصاديا بلغ ما يقارب الأربعة في المائة في عام 2015، إلا أن الناتج الإجمالي فيها يعد ضئيلا الى حد كبير قياسا على عدد السكان حيث بلغ نحو 58.8 مليار دولار في عام 2014 ببنما بلغ عدد السكان 16.02 مليون نسمة.  وجواتيمالا التي تعد صاحبة اكبر اقتصاد في أميركا الوسطى بها واحد من أعلى معدلات انعدام المساواة في أميركا اللاتينية، مع أسوأ صور الفقر وسوء التغذية ومعدلات وفيات الأمهات والأطفال في المنطقة، ولاسيما في المناطق الريفية ومناطق السكان الأصليين.

ويقول تقرير البنك الدولي إن احد التحديات الهامة في جواتيمالا هو تحسين مستويات أمن المواطن، حيث تمثل المستويات العالية للجريمة والعنف تكلفة باهظة للبلاد.

وإذا ما قارنا وضع مصر بجواتيمالا سيكون الأمر مضحكا ومؤسفا عندما نجد أن مصر قامت بثورتها بعد 67 عاما من جواتيمالا، ولم تهنأ بالحكم الديمقراطي الا عاما واحدا. بالتأكيد لم تكن أمريكا حاضرة بقضها وقضيضها في الانقلاب المصري كما كانت في جواتيمالا ولكن من المؤكد أنها – على اقل القليل – أعطت الضوء الأخضر للعسكر لكي يمضوا قدما في مشروعهم. ولان العالم تغير كثيرا في عصر القرية الكونية – لم يكن هناك على عهد ثورة جواتيمالا سوى الإذاعة والصحف – ولان أمريكا تعلمت من تجارب انقلاباتها السابقة، فقد اتخذت موقفا غير موات للانقلاب المصري في الظاهر، ولكن لا احد يعرف ما الذي ستكشفه وثائق المستقبل عن موقفها الحقيقي منه، وان كان عدم إعلانها أن ما حدث هو انقلاب وما يستتبع ذلك من وقف المساعدات العسكرية وفقا للقانون الأمريكي، يمثل ذريعة قوية للشك في الموقف الأمريكي. غير انه لا أحد ينكر أن نفس القوى المستفيدة من الانقلاب الجواتيمالي وهي الإمبريالية الأمريكية والعالمية هي نفسها المستفيدة الحالية من الانقلاب المصري.

وقد يقول قائل انه لا يوجد موز مصري يبرر التواطؤ الأمريكي ولكن الموز المصري موجود وهو اثمن كثيرا من الموز الجواتيمالي إذا أخذنا في الاعتبار أمن إسرائيل وأن مصر تمسك بمفاتيح التغيير في هذه المنطقة الهامة والحساسة من العالم. وبقاء مصر رهينة حكم العسكر يضمن عدم حدوث أي تغيير في المنطقة يمكن أن يهدد استمرار الهيمنة الأمريكية على المنطقة وعلى مقدراتها. 

بقى أن نذكر أن شعب جواتيمالا الذي كان تعداده نحو ثمانية ملايين أثناء الانقلاب، نحو نصفهم من هنود المايا وثلاثة أرباع السكان من الأميين، كانوا في خمسينات القرن الماضي أكثر وعيا بمعنى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتمسكا بهما من الشعب المصري في العقد الثاني من القرن العشرين، مما دفع الولايات المتحدة الى بذل جهود مهولة ليس هنا مجال سردها لحملهم على إدارة ظهرهم للحكم الديمقراطي في بلادهم. غير أن ذلك ربما يعود في جانب منه إلى أن الجواتيماليين شهدوا بأعينهم ولمسوا بعض فوائد الديمقراطية خلال السنوات العشر التي سبقت الانقلاب، وهو مالم يره المصريون طوال تاريخهم. 

ثورة أكتوبر التي قام بها ضباط صغار وطلاب عسكريون ولم يصل عدد قتلاها الى مائة فرد كان قادتها ثلاثة : عسكريان احدهما ميجور (رائد) والاخر كابتن (نقيب) ورجل أعمال مدني، لم يحاول أي من الأفراد الثلاثة الاستيلاء على السلطة لنفسه واعتبارها غنيمة أو اقتسامها مع الآخرين كما حدث في ثورة يوليو 1952 في مصر التي شهدت صراعا فاز فيه عبدالناصر ليكرس حكم الفرد، بل نفذ الثلاثة وعودهم بإجراء انتخابات رئاسية ولم يحتفظوا بالسلطة أكثر من خمسة اشهر وخمسة أيام من 20 أكتوبر 1944 الى 30 مارس 1945 عندما تولى أريفالو السلطة.  ثورة يناير 2011 في مصر قام بها الشعب والتف عليها الجيش وادعي حمايتها ثم قام في نهاية المطاف بتصفيتها  ومحاولة قتلها ودعم ديكتاتورية أبشع من ديكتاتورية مبارك الذي قامت الثورة ضده.

كان أريفالو قد غادر البلاد منذ 14 عاما ويقوم بتدريس الفلسفة في جامعة توكومان في الأرجنتين. لم يشارك الرجل في الانتفاضة ضد اوبيكو ولا الثورة ضد خليفته خوان بونس فيدس، ولكنه كان شخصية معروفة في جواتيمالا حيث وضع الكثير من الكتب في الجغرافيا والتاريخ المستخدمة في المدارس في جواتيمالا.  وطلب منه اتحاد المعلمين العودة للبلاد لخوض الانتخابات ضد خليفة أوبيكو الذي كان يشغل منصبه مؤقتا، وعندما قال الرجل البالغ من العمر نحو 40 عاما انه لا يملك تكلفة الرحلة بالطائرة وليس لديه أموال للقيام بحملة انتخابية أرسل له الاتحاد تكاليف الرحلة وطمأنه الى انه سيكون مسؤولا عن تكلفة الحملة. ولكن ما أن هبط الرجل في المطار في سبتمبر حتى بدأ فيدس يطارده بسبب شعبيته، غير انه لم يضطر الى الاختفاء طويلا فما لبثت الثورة أن قامت وخرج فيدس من البلاد.   

في انقلاب جواتيمالا كانت إسرائيل حاضرة حيث كانت توفر السلاح وتعلم أبناء غواتميالا أساليب مكافحة التمرد والسيطرة على السكان بنفس الأسلوب الذي تطبقه في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويقول معهد ستوكهولم للسلام إن إسرائيل زودت جواتيمالا بما يصل الى 38 مليون دولار من الأسلحة أثناء الحرب الباردة. وشملت الأسلحة طائرات أرافا وقطع مدفعية وزوارق مسلحة إضافة الى بندقية الجليل ورشاش عوزي الذي كان شائع الاستخدام لدى قوات الأمن. 

في انقلاب مصر تعد إسرائيل من الدول الرئيسية المشاركة إن لم تكن أبرزها على الإطلاق حيث جرى اطلاعها منذ البداية  على التحرك الذي باركته وربما قدمت له المشورة والنصح، ثم جاء دورها بعد ذلك في تخفيف رد الفعل الغاضب في العالم ومحاولة حشد الدعم للانقلاب بحماس منقطع النظير. ولا يكف الساسة الإسرائيليون عن دعوة العالم الى دعم السيسي، ومن المسلم به أنهم يؤثرون كثيرا في الموقف الامريكي من النظام المصري.


لا نريد أن نمضي في المقارنات لأنها موجعة ومفجعة. ولكن هناك حقيقة هامة. على الرغم من أن أمريكا دبرت عشرات الانقلاب والعمليات السرية ضد إرادة الشعوب وحماية لمصالحها وتحالفت من المجرمين من الحكام الجهلة إلى تجار المخدرات إلى أسوأ العناصر التي تعادي شعوبها، فإنها لا هي ولا أرماس ولا حتى أربينز كانوا يعرفون أن عملية "النجاح" ستؤدي الى هذه النتيجة وان الأمور في جواتيمالا ستسير هذا المسار البشع. ولكن في مصر المحروسة كان العسكر يعرفون جيدا أن مصر لن تمضي خطوة إلى الأمام بتحركهم الأخرق ومع ذلك فعلوها، وكلنا يتذكر كلمة السيسي في إحدى رسائله التلفزيونية الغريبة التي مازالت تمثل لغزا الى الآن "الجيش لو نزل الشارع أتكلم عن مصر كمان 30  40 سنة". 

وليس من قبيل التشاؤم أن نقول بثقة إن الخيارات أمام الشعب المصري ليست قليلة وإنما تبدو معدومة. مصر أضاعت فرصتها الوحيدة والتي جاءت متأخرة للغاية لتحقيق حكم ديمقراطي وما يمكن أن يصاحبه من حرية وعدالة اجتماعية وتنمية وغيرها من الفوائد الجمة والكثيرة.

من المستعبد بطبيعة الحال أن تدخل مصر في حرب أهلية كتلك التي دخلت فيها جواتيمالا لأسباب عديدة، ولكن المثير للمفارقة أن الحرب الأهلية – التي لم تخرج عن مجال الافتراض أو الافتراء - كانت هي السبب الذي جاء النظام لمنعه، غير أن المفارقة الاكبر هو انها قد تمثل للنظام في مرحلة ما، المخرج الوحيد من موقفه الكارثي الحالي. 

 وأقصي ما يمكن أن تتطلع إليه البلاد في وضعها الحالي وربما لعدة عقود قادمة ووسط المتاعب الاقتصادية الكثيرة التي تتفاقم يوما بعد الآخر، هو أن تتمكن من الاستمرار على هذا المنوال في تلبية أدنى احتياجات الناس المادية، ليكون شغلها الشاغل هو حساب كم شهرا يكفي احتياطي الدقيق المتاح، ومتى تصل سفينة القمح القادمة في البحر، وتدعو ألا تغرق في طوفان الجوع والفوضى قبل أن ترسو على سواحلها.   



  

ليست هناك تعليقات: