محطة باتان |
في منطقة "مورونج" على جزيرة "باتان"
التي تتحطم عليها أمواج بحر الفلبين الغربي تقبع محطة باتان النووية منذ استكمالها
في عام 1984 كشاهد على تعثر حلم الفلبين الكبير في انطلاقها الى العصر النووي
والرخاء الاقتصادي.
وتظل المحطة رابضة بدون تشغيل كما أصبحت معداتها التي كانت
آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا في الثمانينيات، عتيقة وقد عفا عليها الدهر بفعل
التقدم التكنولوجي الكبير في مجالها. وتبقى أروقتها وأماكن العمل التي بنيت لتسع
400 موظف على الأقل، في حالة من الهدوء الذي لا يعكره سوى أزيز أضواء الطواريء
التي يوقعها من آن لآخر خطوات حارس يسير في القاعات ليتأكد انه لا يوجد ما يعكر
السكون في المكان الشبيه بالضريح.
كان الديكتاتور فرديناند ماركوس قد أعلن في عام 1973 اعتزام
الفلبين دخول عصر الطاقة النووية بمفاعلين طاقة كل منهما 600 ميجاوات وبدأت المفاوضات
بالفعل مع شركة جنرال اليكتريك التي قدمت عرضا مصحوبا بالمواصفات بقيمة 700 مليون
دولار وأوشكت على توقيع العقد. ولكن شركة وستنجهاوس استطاعت أن تصل الى الديكتاتور
شخصيا عن طريق وسيط فقبل عرضها الذي بلغ 500 مليون دولار دون أن تقدم أي مواصفات
مع العرض. وبحلول مارس 1975
رفعت وستنجهاوس التكلفة الى 1.2 مليار دولار دون تقديم أي
تفسير. واستقرت شركة الطاقة الوطنية الفلبينية (نابوكور) على بناء مفاعل واحد
بقيمة 1.1 مليار دولار. واتضح بعد ذلك أن وستنجهاوس باعت نفس التكنولوجيا لدول أخرى
مقابل جزء صغير من المبلغ الذي تحملته للفلبين. وبلغت التكلفة النهائية للمشروع
2.3 مليار دولار.
بدأ بناء المحطة في عام 1976 ولكن في أعقاب حادث مفاعل "ثري
مايل أيلاند" في بنسلفانيا بأمريكا في عام 1979 توقف العمل بها. وتم تحديث
تصميم المحطة واستئناف العمل فيها ثانية في عام 1981 ليتم استكمالها في عام 1984.
قبل تشغيل المحطة أطيح بماركوس في ثورة قوة الشعب في عام 1986 وقررت الرئيسة كورازون
أكينو تجميد المحطة بسبب وقوعها في منطقة زلازل وبراكين وخشية تكرار حادث تشيرنوبل
النووي في الفلبين ولكنها أصدرت قرارا بالاستمرار في صيانتها والحفاظ عليها الى أن
تقرر الحكومة الفلبينية ما تفعله بها. وظلت الفلبين تسدد ديون المحطة حتى ابريل
2007 بعد أكثر من ثلاثين عاما من بدء العمل في إنشائها.
ظلت المحطة تمثل صداعا كبيرا بالنسبة للفلبين
التي تعاني نقصا في الطاقة مع ضعف اقتصادها، وظلت حالة الإقدام والإحجام بالنسبة
لتشغيل المحطة قائمة. ففي عام 2008 قام فريق من الوكالة الدولية للطاقة الذرية
بفحص المحطة وتقديم توصيات حول ما يتعين القيام به من اجل تقييم إمكانية تشغيلها،
وفي عام 2010 قامت شركة الطاقة الكهربائية الكورية (كيبكو) بعمل دراسة استنتجت انه
سيتم انفاق مليار دولار على مدى أربع سنوات لإعادة تأهيل المحطة كما توصلت الى أن
80 في المائة من معداتها بحاجة الى إصلاح وان البقية بحاجة الى استبدال.
وفي العام التالي وافقت لجنة الطاقة بالبرلمان
على مشروع قانون بالشروع في إعادة تأهيل المحطة وتشغيلها ولكن كل شيء توقف فجأة
بعد كارثة فوكوشيما في اليابان في عام 2011 وهي أسوأ كارثة نووية منذ تشيرنوبل.
كانت فوكوشيما مصممة لتتحمل زلزال قوته سبع
درجات على مقياس ريختر ولكن التسونامي الناجمة عن زلزال بلغت قوته تسع درجات ألحقت
أضرارا بالغة بمفاعلات فوكوشيما كما عطلت نظم التبريد، مما أسفر عن إطلاق مواد
مشعة. غير أن نابوكور تزعم أن المحطة يمكن أن تتحمل اكبر هزة يتوقع أن تصيب
المنطقة، كما ترى إنها محمية من أي تسونامي لأنها ترتفع 18 مترا عن مستوى البحر.
محطة باتان وما أحاط بها من كوارث دفع الشعب الفلبيني ثمنها
هي نموذج لاستبداد السلطة بالرأي والفساد المستشري وتقديم الفوائد الشخصية الضيقة
على المصالح العامة. في عام 2011 أعلنت الفلبين التي ظلت تدفع ما يزيد على 150 ألف
دولار يوميا على مدى سنوات ولم تخرج بأي كهرباء من المحطة - في تحرك يجمع بين
المفارقة المريرة والألم - عن تحويل موقع المحطة الى موقع سياحي وبدأت الترويج له
بالدعوة الى زيارة "المنتجع النووي". وأوردت وسائل الإعلام نقلا عن مسؤول
سياحي قوله "إنها لن تكون زيارة نووية خالصة، بل أن المحطة ستكون جزءا من
جولة في المواقع التاريخية والمنتجعات الساحلية".
أما صور الفساد الغرائبية في بناء المحطة والتي لم يكن ابشعها
محاولة شراء ابرز مسؤول نووي فلبيني بدعوات لتناول العشاء في فنادق فخمة وتقديم الفتيات
له، فقد فصلتها مجلة "فورشن" في تحقيق استقصائي نشرته في عام 1986.
مصر في الوقت الحالي تشبه الى حد كبير من حيث اضطراب الظروف
السياسية وتداعي الاقتصاد حالة الفلبين في الثمانينيات، إن لم تكن اضعف كثيرا، حيث
يسعى رئيسها الذي جاء الى السلطة بانقلاب إلي تسوق شرعية عن طريق مشاريع اقتصادية
قد تضر ابلغ الضرر بمستقبل البلاد والأجيال القادمة.
كانت وستنجهاوس تريد الانتهاء من مشروعها الفلبيني بسرعة
حتى أنها بدأت العمل قبل استكمال دراسة الموقع وقبل صدور تراخيص البناء لأنها شعرت
أن وضع ماركوس ربما يكون مؤقتا، وكذلك روسيا في حالة المشروع المصري احتاطت بشروط
بالغة الصعوبة وباهظة الكلفة في عقد مشروع الضبعة لان الأوضاع تبدو لها في مصر غير
مستقرة وهي تريد أن تضمن حقها. وإذا تشابهت الظروف والمقدمات فلاشك تتشابه النتائج،
وقد تصبح الضبعة بعد عقود هي ثاني منتجع نووي في العالم بعد باتان.