فيديلا يتوسط ماسيرا وأجوستي يوم 24 مارس 1976 اثناء اعلان الانقلاب |
زار الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأرجنتين مؤخرا بعد أربعين عاما من دعم أمريكا لانقلاب يعد هو الأكثر دموية في التاريخ الحديث للأرجنتين وواحد من أكثرها دموية في العالم وهو الذي اخرج الى عالم السياسة والتاريخ مصطلح "الحرب القذرة". كان انقلاب الأرجنتين الذي قام به قائد الجيش خورخي رافاييل فيديلا واثنين من العسكر هم الأدميرال إيميلو إدواردو ماسيرا قائد البحرية والبريجاديير جنرال أورلاندو رامون أجوستي قائد القوات الجوية في عام 1976 يحمل اسم "عملية إعادة التنظيم الوطنية"، وان لم يكن احد يعرف حتى الآن ما الذي كان يريد العسكر تنظيمه ولا إعادة تنظيمه ولكن المؤكد أنهم لم ينجحوا سوى في خراب البلاد ودمارها.
أوباما، في اشارة الى المصالحة وكنوع من الاعتذار المهذب ومحاولة لنسيان ماضي أمريكا الأسود في أمريكا الجنوبية والوسطى المنطقة التي تسميها باحتها الخلفية، رقص رقصة التانجو الأرجنتينية على سبيل المجاملة لمضيفيه ولكنها كانت رقصة يؤديها على أشلاء المخطوفين والقتلى والأطفال الذين اختطفوا من أمهاتهن في المعتقلات ليحرموا من عطف الأمومة ويعهد بهم الى أسر عسكرية أو أسر يرى العسكر أنها "وطنية" لتربيتهم.
كانت الرقصة مفعمة برائحة المقابر الجماعية والأشلاء والقرى المدمرة وأشباح الأشخاص الذين كان يلقي بهم في المحيط الأطلسي أو في الأنهار. وخلال حكم العسكر الذي استمر سبع سنوات في الأرجنتين اختفي عشرات الآلاف على يد الجيش حيث عذبوا وقتل أكثرهم كما اختطفوا المئات من أطفالهم.
غير أن أهم ما ركزت عليه الزيارة لم يكن التعاون الاقتصادي ولا الثقافي ولا غيره بل هو السعي الى الإفراج عن ملفات أيام الأرجنتين السوداء لدى أجهزة الإدارة الأمريكية المختلفة: وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الاتحادي ووكالة الأمن القومي ووزارة العدل ومجلس الأمن القومي ووكالة استخبارات الدفاع والبنتاجون ووزارة الخارجية. وكانت أول دفعة من تلك الوثائق الخاصة بفترة الحرب الباردة قد أفرج عنها بيل كلينتون منذ 16 عاما وكشفت عن مستويات صادمة من التواطؤ بين الحكومة الأمريكية والنظم العسكرية في شيلي والسلفادور وجواتيمالا. واستفادت الأرجنتين استفادة محدودة من هذه الوثائق الدبلوماسية السرية وحصلت على عدد محدود من السجلات.
وكانت تجرى استعدادات للكشف عن جزء آخر من الوثائق في أوائل سبتمبر 2001 عندما وقعت الهجمات على واشنطن. وأحبطت محاولة أخرى بسبب الانهيار السياسي والاقتصادي في الأرجنتين في نهاية نفس العام. وفي نهاية المطاف تم تسليم 4700 وثيقة من وثائق وزارة الخارجية الأمريكية الى الأرجنتين في أغسطس 2002.
وحتى هذا الإفراج المحدود الذي لم يشمل سجلات الوكالات الأمنية برهن على انه كاشف فسجلات عام 1976 أوضحت أن وزارة الخارجية كانت تتلقى معلومات يومية وتفصيلية من سفارتها في بوينس آيرس حول القمع في الأرجنتين الذي ترعاه الدولة في البلاد. وعلى الرغم من ذلك كان هنري كيسنجر والمسؤولين الآخرين بوزارة الخارجية على علاقة طيبة للغاية مع الديكتاتورية. كانوا يسألون الطغمة العسكرية الى متي سيستمرون في استخدام هذه الأساليب القمعية وينصحونهم بان يعملوا على إنهاء مهمتهم بسرعة.
بعد الانقلاب اسند العسكر إدارة الاقتصاد لخوسيه ألفريدو مارتينيز دي هوز الذي ينتمي الى أسرة من مربيي المواشي وملاك الأراضي الكبار في البلاد وكان يتمتع بصداقة ديفيد روكفلر الشخصية. وخلال فترة عمله التي تزامنت مع وجود فيديلا في السلطة زاد الدين الخارجي الى أربعة أضعاف حيث وصل الى خمسين مليار دولار كما أصبحت الفوارق بين الطبقات العليا والفقيرة أكثر وضوحا وشدة. وشهدت الفترة تخفيض قيمة العملة عدة مرات كما شهدت واحدة من أسوأ الأزمات المالية في تاريخ الأرجنتين.
على عهد الطغمة الحاكمة الثالثة التي بدأت الحكم في ديسمبر 1981 كانت الأمور قد أصبحت سيئة للغاية. صحيح أن القمع في عهد هذه الطغمة خف كثيرا عما كان عليه في عهد فيديلا أو خليفته ولكن الأوضاع الاقتصادية أصبحت بالغة السوء. كان الرئيس ليوبولدو فورتوناتو جالتيري يتعرض لضغوط شديدة في الداخل ولم يكن أمامه من مخرج سوى الدخول في حرب. وبدا المخرج في جزر الفوكلاندز وهي جزر تبعد نحو 900 ميل جنوبي شرق بيونس آيرس والسيادة عليها موضع خلاف بين الأرجنتين وبريطانيا منذ عام 1833 ففي ذلك العام احتلت بريطانيا هذا الجزء التي طالبت به الأرجنتين اعتباره ميراث من أسبانيا.
كانت كل الظروف تدفع العسكر لعمل غير مدروس بعد أن أصبحت صورتهم بالغة السوء. كانت بعض النساء اللائي يتظاهرن بحثا عن أطفالهن أو أحفادهن الذين احتفوا قد بدأن في تكوين جمعيات مثل أمهات ساحة مايو وجدات ساحة مايو. واعتادت هذه الجمعيات تنظيم مظاهرات لنقل أصواتها الى الناس. ونظمت جمعية أمهات ساحة مايو اكبر تظاهرة لها في 18 مارس 1982 وفي 30 مارس نظم الاتحاد العام للعمال الذي كان موجودا وان يكن غير شرعي مظاهرة ضخمة تم تفريقها بالعنف.
في الثاني من ابريل غزت الأرجنتين الفوكلاندز. وتحولت المظاهرات التي كانت تندد بحكم العسكر الى مظاهرات مؤيدة لغزو العسكر للجزر. غير أن محاولة العسكر لم يكتب لها النجاح فقد أدان مجلس الأمن التحرك الأرجنتيني كما لم يحظ تحركها إلا بدعم فاتر من دول أمريكا اللاتينية أما في الداخل فقد ضعف التأييد عندما تبين للشعب مدى إصرار بريطانيا على استعادة الجزر.
كانت مارجريت تاتشر هي رئيس وزراء بريطانيا وأرسلت أسطولا الى جنوب الأطلسي به ثماني مدمرات وحاملتي طائرات وغواصتين نوويتين.
ولان خطة العسكر للغزو كانت قد وضعت على عجل وبدون ترو وجد جنود الأرجنتين أنفسهم في موقف صعب. كانت القوة المحتلة وهي لواء الجيش الثالث مكونة في اغلبها من مجندين جدد يفتقرون الى التدريب والمعدات. ولم يكن بوسعهم الصمود أمام القوة البريطانية ذات الخبرة. واستسلم الأرجنتينيون في 14 يونيو. وفي اليوم التالي عندما ابلغ جالتيري حشدا في ساحة مايو بهزيمة الأرجنتين بدأ الجمهور يقذفه بالإهانات كما بدأ أعضاء الطغمة العسكرية الآخرون يثيرون شغبا في الشوارع.
والغريب أن أمريكا التي كانت تشجيع عسكر الأرجنتين على قمع مواطنيهم خدمة لمصالحها وإبعاد شبح الشيوعية عن النصف الغربي من الكرة الأرضية، وقفت في قضية الفوكلاندز الى جانب بريطانيا وقدمت لها الدعم السياسي وحتى كانت تقدم لها معلومات استخباراتية وصور الأقمار الصناعية عن تجمعات جنود الأرجنتين على الجزر.
في 17 يونيو 1982 بعد هزيمة الأرجنتين على يد البريطانيين في حرب الفوكلاندز استقال جالتيري من الرئاسة تلاحقه الفضائح وحل محله رينالدو بنيتو بنيون وكان هذا هو رابع وآخر رئيس للحكومة العسكرية في الأرجنتين في عهد الحرب القذرة. في الوقت الذي تولي فيه بنيون السلطة في يوليو 1982 كانت الحكومة العسكرية والعسكر قد فقدوا أي مصداقية بسبب الفوضى الاقتصادية في البلاد وهزيمة الفوكلاندز والاضطرابات المتزايدة على خلفية حالات الاختفاء القسري والقمع. ونظر بنيون وهو جنرال سابق على انه دوره مزدوج أي أن عليه أن يغطي تورط الجيش في انتهاكات حقوق الإنسان وان يعيد البلاد الى الحكم المدني. وأصدر أوامر بتدمير كل السجلات المتعلقة بالمعتقلين والمختفين ثم نظم انتخابات بعد أن أصدر قانونا اسماه قانون التهدئة الوطنية، يمنح الحصانة من الملاحقة لإفراد الجيش والشرطة عن الأعمال التي ارتكبوها في قتالهم "ضد التخريب". غير أن الرئيس راؤل ألفونسين ألغى هذا القانون بعد أن تولي السلطة في أكتوبر 1983.
في ابريل 1985 وضع أعضاء الطغم العسكرية الثلاث في الأرجنتين أمام المحكمة وفي ديسمبر حكم على خمسة منهم بالسجن من بينهم فيديلا وماسيرا اللذين حكم عليها بالسجن مدى الحياة.
في أكتوبر 1989 عفت الحكومة عن كبار الضباط والجنود ممن شاركوا في الحرب القذرة وظل ثمانية في السجن منهم فيديلا وماسيرا.
في ديسمبر 1990 أفرج الرئيس كارلوس منعم عمن بقوا في السجون من العسكريين ومنهم فيديلا وماسيرا.
في عام 1995 عبر قادة الجيش والبحرية والقوات الجوية علنا عن ندمهم وأسفهم عن الجرائم التي ارتكبها الجيش بحق الشعب إبان الحرب القذرة.
في يونيو 1998 اعتقل فيديلا مرة أخرى فيما يتعلق بالتبني غير المشروع لأطفال وهي جريمة لم يغطيها العفو كما تم اعتقال عشرة ضباط آخرين. وقضى فيديلا 38 يوما في السجن ولكن نظرا لتدهور صحته أفرج عنه ووضع قيد الإقامة الجبرية.
بعد تولي الرئيس نستور كيرشنر للسلطة في عام 2003 تجددت الجهود لإظهار عدم مشروعية حكم فيديلا حيث لم تعد الحكومة تعترف بأنه كان حاكما شرعيا للبلاد ورفعوا صوره من المدرسة العسكرية.
في 2006 الغي عفو منعم باعتباره غير دستوري وفي يوليو 2010 مثل فيديلا أمام المحكمة باتهامات جديدة وفي يوليو 2012 أدين وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وقالت القاضية ماريا إلبا مارتينيز في حيثيات الحكم إن فيديلا يمثل "مظهرا لإرهاب الدولة".
في 17 مايو 2013 وردت الأنباء بوفاة فيديلا لأسباب طبيعية أثناء نومه في السجن عن عمر ناهز 87 عاما. وكشف تشريح للجثة انه توفى متأثرا بكسور متعددة ونزيف داخلي نجم عن انزلاقه وسقوطه في حمام السجن في يوم 12 من نفس الشهر.
لم يعبر احد من السياسيين الأرجنتينيين عن أي شعور طيب تجاهه إبان وفاته حيث قال البعض انه سيذكر كديكتاتور بينما عبر آخرون عن تعازيهم لأسر ضحايا حكمه. وأشاد إيرنان لومباردي وزير ثقافة بيونس آيرس بالديمقراطية الأرجنتينية لأنها حاكمت الديكتاتور وحكمت عليه. أما رئيس الوزراء خوان مانويل أبال مدينا الأصغر فأعرب عن سعادته "أن فيديلا مات بعد ملاحقته قضائيا والحكم عليه وسجنه في زنزانة عادية، منبوذا من الشعب الأرجنتيني".
وفي ظل حكم صدر عن الجيش في عام 2009 لم يكن من حقه لا هو ولا الآخرين المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان التمتع بجنازة عسكرية. ونظمت له أسرته مراسم دفن عادية. وبوفاة فيديلا لم يعد على قيد الحياة من طغاة الحرب القذرة في الأرجنتين سوى رينالدو بنيون.
ولكن قبل أقل من شهرين من مواراة فيديلا الثرى ومحاولة الأرجنتين نسيان كل المآسي التي جلبها حكمه، كان عسكر آخرون يفكرون في تكرار مآسيهم ولكن ليس في نصف الكرة الغربي بل في قلب العالم. غير أن هؤلاء العسكر كانوا أكثر أمانة من عسكر الأرجنتين حيث قالوا لشبعهم قبل أن يقوموا بتحركهم الذي أطلقوا عليه "ثورة يوليو" إن عليهم أن ينسوا بلادهم لمدة 40 سنة.
الأرجنتين بعد أن تخلصت من حكم العسكر أصبحت دولة لها مكانتها ووضعها في العالم. وتشير بيانات البنك الدولي الى أن إجمالي الناتج المحلي للبلاد بلغ 537.7 مليار دولار في عام 2014، فيما بلغ عدد السكان اقل قليلا من 49 مليون نسمة ودخل الفرد 13480 دولار.