المليونيات المجانية
قرأت خبرا غريبا في اهرام الجمعة أمس، وغرابته ليست ناجمة من طرافته بل من كونه بالفعل غريبا ولا ابالغ اذا قلت مريبا. الخبر يتحدث عن مليونية ستنظم بعد صلاة الجمعة امام المنصة في مدينة نصر لمساندة المجلس الاعلى للقوات المسلحة والمطالبة باستمراره في ادارة البلاد ورفض فكرة المجلس الرئاسي. وستنظم وقفة مماثلة في روكسي بمصر الجديدة.
والجزء الاول من الخبر طيب ومرغوب فيه فنحن جميعا ندعم المجلس الاعلى للقوات المسلحة وخروج مظاهرة او عمل وقفة لدعمه هو امر لا بأس في مواجهة القوى المناهضة للثورة من مثيري الفتن الطائفية والبلطجية والقوى التي تحاول ان تعود بمصر القهقرى. ولكن ان يطالب المحتجون باستمرار المجلس العسكري ورفض فكرة المجلس الرئاسي فهو الامر الذي لا افهمه حقيقة.
اولا : لان فكرة اقامة المجلس الرئاسي طرحت بقوة في بداية الثورة ولكنها لم تلبث ان خفتت عندما لم تلق استجابة من الجيش نفسه. وجدير بالذكر ان ابرز من كانوا يطالبون بها ومنهم البرادعي احد ابرز مرشحي الرئاسة، يبدو انهم توقفوا عن الالحاح بشأنها.
ثانيا : ان المجلس العسكري يقول انه يدير البلاد خلال الفترة الانتقالية ولا يحكمها، وهو امر طيب ومطمئن، لان كل الكوارث تبدأ من الرغبة في الاستمرار في الحكم بأي ثمن، ولكن هل الفرق بين الادارة والحكم ليس الا اختلافا في اللفظ؟.
ثالثا : لا توجد ضغوط كبيرة بل ربما لا توجد ضغوط على الاطلاق على المجلس العسكري في الوقت الحالي لتشكيل المجلس الرئاسي.
رابعا : مكان تنظيم الوقفة يبدو غريبا الى حد ما.
وتأتي الوقفة في وقت بدأت تظهر فيه دعاوى غريبة للتصالح مع اسرة الرئيس السابق مقابل التخلي عن ثرواتها التي نهبتها من اموال الشعب، وهو امر يعد مجرد طرحه اهانه لكل القيم التي قامت من اجلها الثورة. اذا افترضنا ان الرئيس واسرته سيردون للدولة الاموال التي نهبوها، فمن يملك حق التنازل عن دم الشهداء. لا المجلس العسكري يملك ذلك ولا حتى اسر الشهداء ولا ابنائهم ولا ابائهم. ان دمهم ملك لهم وحدهم وقذ ذهبوا دون ان يتنازلوا عنه او يفوضوا احدا بالتنازل عنه.
وكلنا بطبيعة الحال كنا نتمنى العفو عن الرئيس مبارك واسرته، فمهما يكن فمبارك يعني 30 عاما من التاريخ المصري وهي ليست بالفترة الهينة، كان فيها متصرفا في شؤون مصر، وان يكن بموافقة وقبول من فئة قليلة منتفعة. وليس بالامر الكريم بطبيعة الحال ان يرانا العالم ونحن نحاكم رئيسنا ونلقي به في غياهب السجون او نعلقه على المشنقة، فالثورة المصرية لم تشهد لعبة الكراسي الموسيقية التي شهدتها الثورة االفرنسية ولا الاعدامات التي شهدتها كل من الثورتين الفرنسية والايرانية لافراد النظام البائد. وما كان اسهلها ان يبادر كل منا لطلب العفو عن الرئيس وعن اسرته، بل كان يمكن ان يمضي البعض منا الى حد تنظيم المسيرات والمليونيات لطي تلك الصفحة من تاريخنا.
ولكن ذلك يستحيل الان بسبب الدم الذي اريق والاشخاص الابرياء الذين قتلوا لمجرد مطالبتهم بحق شرعي. كلنا مستعدون للعفو عن الرئيس فيما احدثه في حياتنا من دمار وخراب لم يقتصر على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تعداها الى كل الجوانب تقريبا. ولكن القتل المجاني لايمكن ابدا التغاضي عنه او التسامح معه.
انا اعرف ان المجلس العسكري قد لا يحب محاكمة مبارك، جزئيا لانه ينتمي او كان يتنمي يوما ما للمؤسسة العسكرية، وجرئيا لانه هو الذي عين اعضاء المجلس في مواقعهم، واخيرا ربما لضغوط خارجية ترى في محاكمة مبارك سابقة سيئة قد يسيرون هم انفسهم عليها غدا او بعد غد.
هناك امور تبدو اكثر الحاحا من تنظيم مليونية تؤيد انفراد المجلس الاعلى للقوات المسلحة بالسلطة طوال الفترة الانتقالية وهي حالة الانفلات الامني وعزوف الشرطة عن القيام بعملها فيما يعد حالة تأديب للشعب وعقابا له قيامه بالثورة، وبؤر الفتن الطائفية التي تنفجر من ان لاخر.
المجلس العسكري بحاجة الى اتخاذ اجراءات حاسمة ورادعة لحماية الثورة والبلد حتى لو كانت هذه الاجراءات استثنائية. التدليل الزائد للناس وتلبية كل مطالبهم حتى لو كانت غير عقلانية، تحت مسمى حرية التعبير والحرية الثورية، لا يقل من حيث اثاره الضارة عن قمعهم وامتهانهم وانتهاك حقوقهم.
النظام السابق كان يستخدم الفتنة الطائفية كمخزون استراتيجي له يستطيع ان يلجأ اليه عند الحاجة الى اتخاذ اجراءات قمعية مثل تجديد حالة الطواريء او التحرك ضد خصومه. وعندما ينال ما يريد يلجأ الى اسلوب المسكنات فيختفي العرض دون ان يعالج المرض. المجلس العسكري ليس في حاجة الى اتباع اسلوب النظام السابق في معالجة الفتنة بجمع الشيوخ والقساوسة لالتقاط الصور والتحدث عن الوحدة الوطنية والاخوة بين المسلمين والاقباط، بل بحاجة الى تفعيل القانون بحيث يأخذ كل ذي حق حقه ثم يأتي بعد ذلك دور المصالحة التي ستكون صادقة عندئذ وليست تلبية للضغوط والرغبة في المجاملة. لو تم تفعيل القانون والضرب على ايدي مثيري الفتنة بأيد من حديد لفكر الناس كثيرا قبل ان يرتكبوا أي خطأ في هذا الجانب ولتعلموا الا يأخذوا القانون بأيديهم وينفذوه نيابة عن الدولة.
ويجب معاملة أي تجمهر طائفي على انه مخالف للقانون ومعطل لحركة العمل والحياة. لو كان المجلس العسكري فعل ذلك من اول ظهور بوادر الفتنة الطائفية في اطفيح لما كانت ظهرت امبابة ولا غيرها من البؤر الخبيثة ولما تجمهر المسيحيون امام ماسبيرو ليشتبك معهم سكان ابو العلا ولا تجمهر السلفيون في عين شمس ليعرقلوا افتتاح الكنائس التي قررت الحكومة فتحها.
هذه التجمعات تمثل غذاء تقتات عليه العناصر المضادة للثورة. ولا يجب ان ننسى حقيقة ان مصر ليست هي شباب التحرير والمستنيرين الذين يسعون الى بناء دولة مدنية تعيش في القرن الحادي والعشرين فحسب، بل ايضا هي البلطجة والجهل والامية والتعصب والعناصر التي خسرت من تغيير النظام ولديها الكثير من الموارد التي حصلت عليها دون عناء، وليس لديها مانع من التضحية بها مقابل تخريب كل شيء وعرقلة خطى الثورة.
لقد حمل الينا اللواء محمود نصر عضو المجلس العسكري الحاكم الينا انباء غير طيبة منذ بضعة ايام عن اوضاع الاقتصاد المصري مما يستوجب توجيه اهتمام اكبر للوضع الاقتصادي والتوقف عن تنظيم المليونيات وخلافها. ان اكبر ما يهدد ربيع العرب ويمكن ان يحيله الى صيف قائط او شتاء قارس هي الاوضاع الاقتصادية.
لقد اسرفت الصحف على مدى الاشهر الاخيرة في الحديث عن ثروات مصر المنهوبة حتى خيل الى كثيرين انهم لن يكونوا بحاجة الى العمل بعد اليوم وما عليهم الا ان ينتظروا نصيبهم من الثروة القادمة من الخارج او تلك التي سيتم جمعها من الداخل وتوزيعها بالعدل. ولكن الى ان تأتي هذه الثروات الضخمة علينا بالعمل ولا بأس عنذئذ من ان نحتفظ بها كنوع من الأمان لما يمكن ان تواجهنا به الحياة من مواقف.
ولكن اذا كان عدد الفقراء في مصر قد زاد ليصل الى 70 في المئة من السكان - أي انه زاد بنسبة 30 في المئة خلال اربعة اشهر من ادارة المجلس العسكري - الا يعد ذلك مبررا اكبر لتشكيل مجلس رئاسي يتقاسم فيه المسؤولية معه مدنيون، بدلا من تنظيم مليونية تكرس سيطرته على الحكم وانفراده بالسلطة؟.